الذكرى التاسعة والعشرون المباركة لارتقاء المهندس الكبير عصام براهمة، أول قائد عسكري لحركة الجهاد الإسلامي في الضفة المحتلة، وفاءً وإحياءً وتخليداً واستمراراً للنهج على طريق القدس.
مساء الخميس 10 ديسمبر 1992م، سُلّطت الأضواء القوية على المنزل، وبدأت مكبرات الصوت لجنود الاحتلال تدعو القائد عصام براهمة لتسليم نفسه، وكان جوابه صيحة "الله أكبر" على ألحان الرصاص، وهنا بدأت طائرات العدو بقصف المنزل، أما المجاهد عصام، فقد صنع خندقاً؛ أطل عليهم برصاصه فيتساقط القتلى والجرحى، وكان يخوض معركته بقطع رشاش وقنابل يدوية وذخيرة، في مواجهة طائرات عمودية شاركت في القصف حتى منتصف الليل.
ساد الصمت وتقدم قائد القوات مع جنوده، ظناً منهم أن المجاهد عصام قد انتهى. فإذا بصيحة "الله أكبر" تجلجل من تحت الأنقاض، مبتور القدم، مثخن بالجراح، إلا أن رمقه الأخير لا يزال يزخر بالرصاص، فسقط قائدهم "ساسان مردوخ" وتبعه أربعة منهم وجرح الكثيرون وفر الباقون ذعراً ورعباً.
أخذت الطائرات تقصف المنزل بشدة حتى سوَّته مع الأرض وعصام لا يتوانى عن إطلاق النار، حتى لاح الفجر فكانت الشهادة. طائرة عمودية تطلق صاروخاً على صدره فارتقى عصام عاشقاً كما أحب. وكانت تلك أول عملية قصف بالطائرات في انتفاضة الحجارة 1987م.
ميلاد فارس فلسطين:
أبصر فارسنا النور في بلدة "عنزة" قضاء جنين، في 5 مايو 1963م، لأسرة مؤمنة بدينها ووطنها، وكان ترتيبه الثاني بين أخوته الستة، وأكمل دراسته حتى أنهى المرحلة الإعدادية بتفوق، ثم انتقل إلى قرية سيلة الظهر وحصل على درجة متميزة في الثانوية العامة، ثم التحق بكلية المجتمع العصرية في رام الله لدراسة هندسة الديكور، لكن تعليمه لم يمنعه من مواصلة مشواره الجهادي.
روح وريحان:
يقول الأسير المحرر عطا فلنة "أبو جهاد"، رفيق درب الشهيد عصام براهمة، واصفاً إياه بـ"الفدائي الثائر منذ طفولته، والابن البار بأهله، والقائد لأصدقائه، والانسان الرحيم والمحبوب من الصغير والكبير والعادل في حل مشاكل أهل قريته".
وأضاف أنه عندما أصبح عصام المطلوب رقم (1) يقول "أبو جهاد" واصفاً تلك اللحظات، "عنما عرف أنه مطلوب للاحتلال فرح كثيراً؛ لأنه كان يريد أن يتفرغ للجهاد في سبيل الله، ويكون كل وقته لله"، مشيراً إلى أنه كان يؤجل زواجه من خطيبته لما بعد إنجاز عملياته الجهادية.
ويواصل "أبو جهاد" حديثه بالقول: كان عصام براهمة مؤثراً في رفاقه وأصدقائه، وكانوا عندما يخرج عصام من عنزة يرونها مظلمة، وعندما يعود كانت تبتهج، ويفرح الجميع بوجوده. وكان عصام يحب فلسطين والقدس والجهاد والشهادة.
من جهته، قال الأستاذ نصر العمور عن حياة الشهيد القائد عصام براهمة، "أنه كان معلماً في حب الإسلام والجهاد وفلسطين، وقد كتب شعاراً يقول فيه: فلتخرس كل الألسن التي تنادي بغير الإسلام". كما كتب عقب عملية الشهيد رائد الريفي "عاشت السواعد التي فجرت ثورة السكاكين"، وكان يردد أن جذوة الحق التي تضاء بدماء الشهداء لا تنطفىء باستشهادهم بل تزداد تألقاً يبهر العقول.
ويضيف الأستاذ نصر، أن عصام كان محباً للوحدة بين جميع أطياف الشعب الفلسطيني، وقد خاطب أهلنا في غزة، فترة انتفاضة الحجارة، داعياً لهم للوحدة ورص الصفوف، مستنداً إلى آيات القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة محذراً أن المستفيد الوحيد هو الاحتلال الصهيوني.
ويواصل حديثه: كان صادقاً مع الله، وعاشقاً للشهادة، وكان صاحب إيمان ووعي وثورة، كان يركز على سورة الأنفال، ويأمرنا أن نحفظها، ويعلمنا الاعتماد على الذات، وعدم انتظار المساعدة من أحد فيما يخص العمل المقاوم. مضيفاً أنه قال ذات يوم، "لو جاءني أمر من القيادة بالقيام بعمل جهادي أو مهمة جهادية في يوم عرسي لفعلت بدون تردد".
وعن معركته الأسطورية واستشهاده، وصف العمور تلك اللحظات بقوله: "كان أخانا مقاوماً عنيداً اشتبك مع العدو ورفض الاستسلام، وكان أول مقاوم يقصف بصواريخ العدو في فلسطين، كان من الممكن أن يقتل إثنين من كبار قادة العدو آنذاك، وهما "داني يتوم" و"موشي يعلون"، حيث وصف ذلك أحد الضباط المشاركين في العملية، حيث قال كان من الممكن أن ينتهي أمرهما بسهولة.
في صفوف الجهاد:
اعتقل في صغره لعدة أيام بسبب تنظيمه مظاهرات مدرسية، ثم انخرط في صفوف الثورة الفلسطينية، وتدرب على إطلاق النار فصار ماهراً لا يخطئ هدفاً، ثم أخذ ينظم الشبان، ويكوّن أول خلية مسلحة ضاربة في العام 1984م ويكون أول شاب من عنزة ينخرط في العمل العسكري ضد الاحتلال.
شارك شهيدنا بعدة ضربات ضد دوريات جيش الاحتلال على تخوم بلدته ومحيطها وصولاً إلى مدن الضفة، حتى اعتقل في العام 1986م وأصدرت المحكمة العسكرية ضده حكماً بالسجن لمدة أربع سنوات، وفي السجن تعرف على حركة الجهاد الإسلامي، وأعلن انتماءه لها، فيما كانت الانتفاضة الأولى قد انطلقت وتسارعت وتيرتها، وخرج أكثر اصراراً على مواصلة الدرب.
كان عصام براهمة مؤسس العمل الجهادي في الضفة، وكان على تواصل مباشر مع الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي لاطلاعه على مجريات العمل وإشعال جذوة الصراع ضد جنود الاحتلال. وهو الذي اختار اسم المجموعة "عشاق الشهادة"، بعد استشارة من حوله من القادة والمجاهدين.
قام الشهيد القائد عصام براهمة ومعه الأسير المحرر عطا فلنة والأسير المجاهد محمد فلنة، بتفجير عبوة ناسفة مساء الجمعة 16 أكتوبر 1992م، على الطريق المؤدي إلى مغتصبة «متتياهو» أدت لمقتل مديرة مجلس المستوطنة وإصابة 10 اَخرين، وتعتبر أول عملية تفجير عبوات ضد الجنود والمستوطنين في انتفاضة الحجارة.
اتهم العدو القائد عصام براهمة بالمسؤولية عن عمليات "عشاق الشهادة"، فأصبح مطارداً في الكهوف يفترش الأرض ويلتحف السماء حتى ألف حياة المطاردة رغم قسوتها.
ذكرى عصام براهمة:
في الذكرى السنوية الثانية لاستشهاده، في العاشر من كانون أول 1994م، دعت حركة الجهاد الإسلامي لإقامة حفل تأبيني للشهيد في مسقط رأسه قرية عنزا، وجاء في كلمة الحركة: "إننا نقف اليوم لتأبين قائد جهادي فذ، فماذا نقول لمثل هؤلاء الأفذاذ الميامين وكل التعابير ممجوجة وكل الكلمات تتقزم أمام كبرياء هؤلاء، وأن السبيل الأمثل لتكريمهم هو السير على دربهم... ماذا نقول فيك وأنت العاشق المعشوق، ستبقى نبراساً يهتدى به، وأنت تنضم إلى نخبة الجنة... لتتكامل حبات اللؤلؤ في العقد الجهادي الفريد".