أنهت دولة الاحتلال بناء جدار تحت أرضي حول قطاع غزة بطول 65 كيلومتراً (40 ميلاً)، حيث بدأ بناء الجدار في عام 2017م، وكلّف بناؤه نحو 3.5 مليارات شيكل، والهدف الرئيس من وراء هذا المشروع الدفاعي، كما صرّح وزير الأمن الإسرائيليّ بني غانتس، أثناء الاحتفال بانتهاء المشروع، هو "أن الجدار سيحرم المقاومة في غزة إحدى قدراتها الهجومية (الأنفاق)"، ومن الجدير بالذكر أن مشروع الجدار التحت أرضي ضد أنفاق المقاومة الهجومية هو أحد الدروس المستفادة إسرائيلياً من حرب 2014 على غزة، والذي استثمرت فيه المؤسسة العسكرية الإسرائيلية نحو ثلاثة ملايين متر مكعب من الخرسانة، و140 ألف طن أخرى من الحديد والصلب، أي ما يعادل طول مقطع فولاذي ممتد من "إسرائيل" إلى أستراليا، كما صرّح بذلك مدير المشروع عيران أوفير، ويشير المشروع الإسرائيلي النوعي ذو الطابع الدفاعي إلى تغيّرات استراتيجية طرأت على العقيدة العسكرية الإسرائيلية.
أدى ازدياد تهديد النيران الموجهة إلى الجبهة الداخلية الإسرائيلية إلى تنامٍ في وظيفة الدفاع، وكان مرتكز الدفاع في السابق يمثل دوراً ثانوياً، في مقابل النزعة الهجومية المسيطرة على العقيدة العسكرية الإسرائيلية، منذ تأسيس عصابات "البلماخ" (الصاعقة) عام (1941م)، نواة الجيش الإسرائيلي قبل تأسيس "إسرائيل". ومن الممكن الاستدلال على نزعة العقيدة العسكرية الإسرائيلية الهجومية من خلال توضيح دور سلاح الجو الإسرائيلي، الذي تعتبر أولى مهمّاته حماية أجواء "إسرائيل"، ولكن في الحقيقة تم تخصيص جزء قليل من سلاح الجو لهذا الدور الدفاعي، مقابل الدور الهجومي لسلاح الجو فعلياً.
عجز القيادة الإسرائيلية المتراكم أمام تهديدات الصواريخ والقذائف، خلال الانتفاضة الثانية، وحرب تموز (2006م)، والعبر المستخلصة منها، أدّى إلى تحفيز المؤسسة العسكرية لتخصيص تمويل للبحث والتطوير، والتسلح بمنظومات دفاع إيجابية، مثل: "القبة الحديدية"، و"العصا السحرية". هدف هذه المنظومات توفير حماية متعددة الطبقات، للجغرافيا الإسرائيلية، من الصواريخ المختلفة المدى.
ومن الجدير ذكره أنه في البدايات أبدى "جيش" الاحتلال الإسرائيلي تحفظه على هذه المشاريع الدفاعية، إلا أن المستوى السياسي دعم هذه الفكرة، خاصة بعد أن أوصت "لجنة مریدور"، عام (2006م)، بإضافة مرتكز الدفاع إلى المرتكزات الثلاثة التقليدية في العقيدة العسكرية الإسرائيلية (الردع والإنذار المبكر والحسم)، ومطالبتها ببناء منظومات دفاعية جديدة ومتطورة. ولكي يعالج "جيش" الاحتلال هذه المهمة، كان عليه القبول بمبدأ الدفاع.
تحول الدفاع إلى هدف مركزي في العقيدة العسكرية الإسرائيلية أكثر فأكثر لسببين:
السبب الأول، تعاظم كمّ التهديدات على الجبهة الداخلية الإسرائيلية بشكل كبير جداً، من عدّة طلعات جوية فوق مدن الشريط الحدوديّ أثناء حروب "إسرائيل" مع الجيوش العربية سابقاً، إلى عشرات آلاف الصواريخ الموجّهة إلى كل مساحة "دولة" الاحتلال حالياً.
السبب الثاني، تطور التقنيات الدفاعية، التي يمكن من خلالها قيام جهد دفاعي جاد، لم يكن قائماً قبل عدة سنوات.
رغم تنافي مبدأ الدفاع مع المبادئ التي أُسّست عليها العقيدة العسكرية الإسرائيلية، المتمثّلة في ثقافة الهجوم، وأسطورة الجيش "الذي لا يقهر"، ومركزية قوة الردع، والقدرة على الحسم العسكري، ونقل المعركة إلى أرض العدو، وغيرها من المبادئ العسكرية ذات التوجهات الهجومية، إلا أن تغير البيئة الأمنية الاستراتيجية "لإسرائيل"، من خلال التغيرات التي طرأت نوعياً على أعدائها، وشكل المعارك التي يخوضها "الجيش" الإسرائيلي، والأسلحة التي يستخدمها محور المقاومة، وقدرته على إدخال الجبهة الداخلية الإسرائيلية إلى المعركة، سواء من خلال سلاح الصواريخ، أم حتى "السايبر" والأنفاق الهجومية، وحديثاً المسيّرات القتالية، جعلت الدفاع أمراً ضرورياً لملء المساحات التي نتجت عن تراجع القدرات الهجومية التي بنيت عليها مرتكزات العقيدة العسكرية الإسرائيلية.
تنبع الطريقة الإسرائيلية لخلق استقرار أمني استراتيجي للكيان من موقف التفوق العسكري، حيث تمارس "إسرائيل" دوماً موقف الدولة الرادِعَة لا المردوعة، فضلاً عن عدم قبولها بأن تكون في موقف توازن ضمن قوى متساوية.
هذه المعادلة وضعت أمام أعدائها عندما كانت دول الطوق تشكل التهديد المركزي لها، وفي عهد الحروب الحاسمة، لكن على ضوء التغيرات في طبيعة الصراع تجاه المنظمات شبه الرسمية (فصائل المقاومة)، والصراعات المنخفضة الوتيرة (جولات التصعيد)، وجدت "إسرائيل" نفسها تدير وضع ميزان ردع متبادل، وتحول الردع إلى أداة لإبعاد وتقليل الخطر من نشوء تهديدات تبادر إليها فصائل المقاومة (هجوم).
بمعنى آخر، إن الردع الإسرائيلي باتت وظيفته منع أفعال عسكرية هجومية محددة لفصائل المقاومة، من خلال قدرات الدفاع الإسرائيلية على تحييد أسلحة فصائل المقاومة الهجومية، ولكن الأمر الذي يحاول "الجيش" الإسرائيلي عدم الحديث عنه هو عدم قدرته الهجومية على توفير ما يسمّى الأمن الشامل كما كان في السابق، والاكتفاء بالحفاظ على وضع قتالي مستمر بمستوى تستطيع أن تتعايش معه "إسرائيل".
بناءً على ما سبق، لم يعد الردع الإسرائيلي يوفر استجابة كافية طويلة الأمد، وخاصة في غياب القدرة على تحقيق الحسم العسكري، الأمر الذي اتضح من خلال جولات المواجهة مع المقاومة في غزة، ما أدّى إلى تشكيك "الجيش" في كفاءة المصطلحات التقليدية الخاصة "بعمليات عسكرية بهدف الحسم"، والذهاب إلى "عمليات عسكرية بهدف التأثير"، وباتت فرضية "الجيش" الإسرائيلي الأساسية هي أنه غير قادر على هزيمة العدو، أي فصائل المقاومة، لذا توجب عليه البحث عن طريقة أخرى للتأثير على سلوكه الاستراتيجي، وصارت العمليات العسكرية الإسرائيلية تسعى لإحداث تأثيرات عملية محدودة، بهدف تقييد السلوك الاستراتيجي لفصائل المقاومة واحتوائه، وخاصة الهجومي، الأمر الذي يعتبر تراجعاً للنزعة الهجومية داخل العقيدة العسكرية الإسرائيلية على حساب مركب الدفاع، وباتت أهداف المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تدور حول القدرة على منع فصائل المقاومة من تحقيق ما هو متوقع إنجازه من فعلها العسكري الهجومي، من خلال التحييد الإيجابي لقدراتها الهجومية - في هذه الحالة الأنفاق-، الأمر الذي سيقنعها بأن تلك المجهودات الهجومية (الأنفاق)، عبارة عن سياق فارغ محكوم عليه بالفشل، لذا يمكن القول إن الجدار التحت أرضي حول غزة محاولة لتعويض عقدة الفشل الإسرائيلية الهجومية في إنهاء خطر أنفاق المقاومة في غزة.