يعيش الفلسطينيون تحت ضغط من الرقابة الإسرائيلية المستمرة، سواء في الضفة الغربية أو غزة أو داخل إسرائيل ذاتها. إذ كشفت تقارير حديثة عن نشر الجيش الإسرائيلي لتكنولوجيا "بلو وولف" للتعرف على الوجه، والتي شهدت مكافأة مجموعة من الجنود الإسرائيليين على حصولهم على أكبر عدد من صور المدنيين الفلسطينيين، بالإضافة إلى تثبيت برنامج "بيغاسوس" من شركة NSO على أجهزة الجوال الخاصة بالفلسطينيين العاملين في مجال حقوق الإنسان.
قد تشكّل هذه التقارير صدمة للمجتمع الدولي، ولكن الفلسطينيين على علم منذ زمن بعيد بأن إسرائيل جعلت الأراضي المحتلة مختبرا لأغراضها التكنولوجية في الرقابة المتوسعة. ويساعد ذلك الشركات الإسرائيلية في تسويق تقنياتها على أنها "مجرّبة على أرض الواقع" عند تصديرها حول العالم.
بالإضافة إلى انتهاك الرقابة الإسرائيلية لحقوق الإنسان لدى الفلسطينيين، فلها تداعيات كبيرة على المجتمع الدولي. غياب المحاسبة والشفافية والتقنين لعمليات بيع أدوات التعقب والتجسس وتزويدها يهدد المجتمعات المهمَّشة والمدافعين عن حقوق الإنسان والأكاديميين والصحافيين على مستوى العالم. صحيح أن الحكومات التي تشبه إسرائيل في طريقة التفكير تعدّها نموذجا في الرقابة على مواطنيها، إلا أن المجتمع الدولي لا يسعه بعد الآن الصمت على تقويض الحق في الخصوصية.
لقد أصبحت أنظمة الرقابة الإسرائيلية جزءا لا يتجزأ من نهج السيطرة على حياة الفلسطينيين اليومية. إذ أحكمت إسرائيل قبضتها تدريجيا على قطاع المعلومات والاتصالات في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ الاحتلال في عام 1967، ما يشكل تحديا لاتفاقيات أوسلو التي نصت على نقل إسرائيل السلطة تدريجيا إلى الفلسطينيين.
كانت النتيجة انتهاكات جسيمة للحقوق الفلسطينية الرقمية، بما في ذلك نظام الإنترنت متعدد المستويات، حيث يتمتع الإسرائيليون بالجيل الخامس، في حين لا يحصل الفلسطينيون في الضفة الغربية على أكثر من الجيل الثالث وفي قطاع غزة على الجيل الثاني.
"عوامل ضغط"
في الوقت ذاته، تثبّط إسرائيل التقدم التكنولوجي في المجتمعات الفلسطينية، بالإضافة إلى سيطرتها على بنيته التحتية التي ترسّخ حالة الرقابة. وأعلن أحد كاشفي الأسرار عن التقنيات الإسرائيلية بأن سلطات الاحتلال تمتلك القدرة على الاستماع إلى المحادثة على أي جوال في الضفة الغربية وقطاع غزة، بل إن أداة تنصت تُزرع في كل جوال يدخل قطاع غزة عن طريق معبر كرم سالم.
تستخدم وحدة 8200 الإسرائيلية المثيرة للجدل وسائل الرقابة هذه للعثور على "عوامل ضغط" تحوّل الفلسطينيين إلى عملاء. وغالبا ما تبحث عن الفلسطينيين المثليين وتضعهم أمام خيارين مستحيلين. أوّلهما الكشف عن ميولهم الجنسية أمام أصدقائهم وعائلاتهم، والذي قد يؤدي إلى اضطهادهم. وثانيهما القبول بأن يصبحوا عملاء للتجسس على مجتمعاتهم لصالح الحكومة الإسرائيلية.
على مدار السنوات الخمس الماضية، تنوعت وازدادت أساليب الرقابة الإسرائيلية زيادة كبيرة. وشجعت إسرائيل قطاع التكنولوجيا والأمن على إحداث الخوارزميات والأدوات الرقابية الهادفة إلى التدقيق في المحتوى الإعلامي الاجتماعي الفلسطيني، وتسبّب برنامجها البوليسي التنبؤي المثير للجدل في اعتقال مئات الفلسطينيين بتهم تتعلق بالتحريض الإعلامي الاجتماعي منذ عام 2015.
تسببت جائحة كورونا بتفاقم الوضع، حيث شرعت إسرائيل باستخدام ذريعة الصحة العامة بنشر أدواتها الرقابية الجديدة في كل مكان. ويواجه الفلسطينيون قيودا شديدة على حرية التنقل وعليهم التقدم بطلب لأغراض السفر. وعلى إثر الجائحة أطلقت إسرائيل في العام الماضي تطبيقا للهواتف بدلا من خدمات طلب السفر المباشرة.
رغم إعلان هذا التطبيق ضمن تدابير الصحة العامة، فإن أبرز غاياته الخفية تتمثل في خدماته، والتي تُلزم المستخدمين بالسماح له بالوصول إلى البيانات المحفوظة على هواتفهم مثل الاتصالات والصور. وتتعقد الأمور أكثر عندما تتضح أهمية هذه الخدمات للكثير من الفلسطينيين.
سيكون من الصعب العثور على عمل ضمن المناطق الجغرافية التي ينحصر فيها الفلسطينيون دون الحصول على التصاريح اللازمة. ويرغم الجيش الإسرائيلي الفلسطينيين الذين يريدون العمل في البلدات الإسرائيلية على تثبيت تطبيق الجيش باللغة العربية ("المنسق") في هواتفهم الخليوية لتقديم طلب للحصول على تصريح عمل. وهكذا يتم إرغام الفلسطيني على الاختيار ما بين الحصول على حقه المعيشي وبين حقه في المحافظة على الخصوصية.
الكاميرات ذات الدوائر المغلقة
وفي الوقت ذاته، تعدّ الرقابة المصوّرة وبرامج التعرف على الوجه واقعا يوميا في حياة الفلسطينيين. ففي عام 2000، وُضعت عدة مئات من الكاميرات التلفزيونية ذات الدوائر المغلقة في القدس القديمة. وفي عام 2015، وسّعت إسرائيل كثيرا من هذا النظام. وأما في الوقت الحالي فإن تقنية التعرف على الوجه أضحت منتشرة لدرجة جعلت الفلسطينيين لا يشعرون بالأمان حتى في منازلهم.
بعض هذه الكاميرات مثبّتة بطريقة تسهّل النظر داخل المنازل، حتى إن بعض النساء يلجأن إلى النوم وهن يرتدين الحجاب. وتفضل عائلات أخرى منع أبنائها من اللعب خارج المنزل على إثر اختراق هذه الكاميرات لجميع أشكال الخصوصية.
من الواضح أن نظام الرقابة الإسرائيلي قائم على غياب الاحترام للحقوق الأساسية للفلسطينيين، بما فيها الحق في الخصوصية. وفي المقابل، كانت استجابة الحكومات من كافة أنحاء العالم بطيئة وعقيمة في التعامل مع هذه القضية. ويبقى التعويل على الدور الحيوي لمؤسسات المجتمع المدني والمدافعين عن الحقوق الرقمية في تكثيف الضغط الشعبي على شركات الرقابة.
ومع الضغط المتزايد في هذا السياق، وضعت الولايات المتحدة مجموعة NSO وشركة "كانديرو" على قائمتها السوداء لأنها "أنشأت برنامجا للتجسس وقدمته إلى حكومات أجنبية تستخدم هذه الأدوات بسوء نية لاستهداف مسؤولين حكوميين وإعلاميين وتجار وناشطين وأكاديميين وعاملين في السفارات". وكذلك أعلنت شركة "مايكروسوفت" في العام الماضي نيتها بيع حصتها شركة "أني فيجين" الإسرائيلية المتخصصة في تقنيات التعرف على الوجه.
إلا أن هذه الإجراءات غير كافية لمعالجة القضية الأساسية في أنظمة الرقابة الإسرائيلية المستفحلة واختبارها على الفلسطينيين. لذلك ينبغي على الحكومات من جميع أنحاء العالم الضغط لزيادة التقنين والشفافية بشأن طرق تطوير تقنيات الرقابة ونشرها، وكذلك ينبغي عليها معاقبة الشركات التي تستغل المجتمعات المهمّشة لاختبار منتجاتها.