بقلم/ راغدة عسيران
صدر في شهر أيلول/سبتمبر 2021 تقرير منظمتين عالميتين صهيونيتين، "الرابطة ضد التشهير" مقرها في الولايات المتحدة، و"معهد توني بلير للتغيير العالمي"، حول المناهج التعليمية العربية، حمل عنوان: "تعليم السلام والتسامح في العالم العربي بعد عقدين من 11 سبتمبر/أيلول".
رصد التقرير مدى مجاراة هذه المناهج للقيم والمبادئ الامبريالية والصهيونية، والتحولات التي طرأت عليها بعد أحداث أيلول 2001، بضغط من المجتمع الدولي ومؤسساته، أو من قبل مسؤولي المنظمتين على السلطات السياسية في بعض الدول العربية.
أبدى التقرير ملاحظاته حول التغيير الذي طرأ على بعض المناهج التعليمية في بعض الدول العربية، حول مبادئ "التسامح" مع الديانات الأخرى والانفتاح على القيم التي تروج لها الدول الامبريالية وفقا لمنظورها، أي الديمقراطية وحقوق الانسان والسلام. فرحّبت بخطوات بعض الأنظمة بإزالة النصوص الدينية في الكتب المدرسية التي تحض على الجهاد، وتأكيد بعضها على قيم "التسامح" والاعتراف الضمني بوجود "أقليات دينية" في بلدانها، كما فعل المنهاج المغربي الذي أشار الى الجالية اليهودية وإسهاماتها في التراث المغربي.
كما أشاد التقرير بالجهود المبذولة لدى بعض الحكام العرب للتعريف على الأديان والشعوب الأخرى في العالم. ومثالا على ذلك، الحديث عن عيد "الكريسمس" في كتاب إماراتي، والحديث عن أطفال أميركيين يلعبون على "السكيتبورد" ويحملون العلم الأمريكي، في كتب قطرية وبحرينية. ما يعني أن قيم السوق الرأسمالي والليبرالي الذي حوّل الديانات وثقافات الشعوب الى مناسبات للاستهلاك والتفاخر القومي التوسعي، كما هو الحال في معظم الدول الغربية، وليست التعاليم الدينية الحقيقية ولا ثقافات الشعوب، هي التي تبنّتها بعض الدول العربية والتي أشاد بها التقرير.
وينتقد التقرير عددا من المناهج التي ما زالت تتحدث عن خيانة اليهود للعهود والاتفاقيات المبرمة، عن مكرهم ومحاولاتهم للسيطرة، ليس فقط على الدول العربية، بل على العالم، والتعاليم التلمودية التي شوّهت الديانة اليهودية، واعتبار أن اليهود لا علاقة لهم بالمقدسات في القدس (الأردن)، والأهم من كل ذلك، غياب "المحرقة" التي تعتبر أهم حدث تاريخي للبشرية، حسب معدّي التقرير، والتي قد تفسح المجال لفهم الصراع في المنطقة.
يبدو ان المناهج التعليمية العربية لم تعد تكتب عن الصراع العربي – الصهيوني إلا من وجهة نظر المجتمع الدولي والأمم المتحدة، حيث لم ينتقد التقرير أيا من المناهج في هذا الخصوص، وذلك بعد الابتزاز المالي التي مارسته الدول الغربية الداعمة لإصدارها في عدد من الدول العربية. فاقتصر الانتقاد على غياب خارطة كيان العدو فيها، وأوصى بإدخالها ضمن خارطة دول المنطقة، أي حذف جغرافية فلسطين التاريخية واستبدالها ب"إسرائيل". كما أوصى بإزالة كل تعبير يصف الصهيونية أو "إسرائيل" بالعنصرية واستبداله بالإشادة باتقافيات التطبيع الخيانية الأخيرة (اتفاقيات أبراهام).
ينتقد التقرير، من ناحية أخرى، مفهوم "صراع الحضارات" الذي يتبناه المنهاج الجزائري، الذي ما زال يذكّر بالتاريخ الحديث، أي الاستعمار الفرنسي في الجزائر والمجازر التي ارتكبها بحق شعبها. فاعتبر أن التذكير بحقبة الاستعمار يبث "الكراهية"، رغم أن شعوب المنطقة ما زالت تعيش تداعيات هذه الحقبة السوداء في تاريخها، بسبب التبعية والتجزئة. يوصى التقرير بحذف كل ما يتعلق بالتاريخ الدموي للغرب الامبريالي وعدم الحديث عن الغزو الثقافي الذي تعاني منه مجتمعاتنا واستبداله بحوار الحضارات والأديان.
تكمن أهمية هذا التقرير كونه لا يختصر على دراسة المناهج العربية من ناحية الصراع العربي – الصهيوني، بل يحدّد توصياته وانتقاداته وفقا لنظرة الغرب الاستعماري والصهيوني، الى العالم. ينطلق من مفهوم "الإرهاب" الذي صاغه هذا الغرب، والذي شمل كل شعب أو حركة ثورية في منطقتنا تحاول التحرر من الاستعمار والغزو البشري والفكري، وينسج تقريره على أساس أن "محور المقاومة" هو العدو الذي يجب مواجهته، وأن الجمهورية الإسلامية في إيران هي التي تغذي المقاومة، وكأن الشعب الفلسطيني، بعد أكثر من قرن من الزمن، ليس لديه أسباب حقيقية ومصيرية للدفاع عن نفسه ومحاربة الغزو الصهيوني. مرة أخرى، يتم تغييب الشعب الفلسطيني وحقه وإرادته، عن الخارطة السياسية في المنطقة والعالم، من قبل جماعة تدعو الى "الإعتراف بالآخر".
تدعو المؤسستان الصهيونيتان الى تشويه التاريخ في المنطقة والعالم، بعدم ذكر المجازر والإرهاب الغربي الامبريالي ضد الشعوب، والاكتفاء بذكر "المحرقة" التي حلّت باليهود الأوروبيين، من أجل شرعنة وجود الكيان الصهيوني، أي استغلال حادثة معينة حصلت في أوروبا قبل عقود لشرعنة أكبر عملية سطو على الأرض العربية الفلسطينية وأفظع جريمة بحق شعب ارتكبها غزاة مدعومين من قبل أنظمة أوروبية وحشية، قتلت ودمّرت حضارات في العالم وما زالت تتباهى في مناهجها التربوية أنها أدخلت الحضارة الى تلك الشعوب.
تدعو المؤسستان الصهيونيتان الشعوب العربية الى إنكار الذات وإنكار حضارتها ودياناتها وثقافاتها عن طريق حذف أجزاء من تعاليمها الدينية، بحجة أن بعض الحركات التكفيرية قد اتخذت بعض التعاليم القرآنية لارتكاب الجرائم، دون ذكر أن هذه الحركات التكفيرية قد وجّهت أسلحتها أولا لمحاربة المسلمين، وليس الأديان الأخرى. المراد من هذا الغموض في تحديد معنى "الجهاد" هو المسّ بجوهر الإسلام، واعتبار أنه يحمل بذور "العنف" و"الإرهاب"، من ناحية، وتصوير حركات المقاومة ضد الصهاينة والولايات المتحدة بأنها "إرهابية" من ناحية أخرى.
لكن الأهم من ذلك، هو اعتبار أرض الأندلس مثال للتعايش بين الشعوب والأديان. اقترحت المؤسستان الصهيونيتان، إضافة الى أخرى (اليونسكو، الجامعة العربية ومؤسسة آنا ليندت) أن على الكتب المدرسية في العالم العربي إبراز التعايش والتسامح اللذين مارسهما المسلمون في الأندلس. لكن السؤال هو: من دمّر الحضارة الإسلامية في الأندلس؟ كيف يمكن تفسير غياب الأندلس دون الحديث عن الهجمة الغربية الوحشية على أهل الأندلس وعن محاكم التفتيش الأوروبية التي هجّرت اليهود والمسيحيين والمسلمين عن بلادهم والتي نفّذت أولى عمليات التطهير العرقي والديني في العالم؟ أليس ما حصل في الأندلس يبشّر بالتاريخ الدموي الغربي المستمر الى اليوم، عبر إقامة كيان استيطاني عنصري إحلالي في فلسطين، وعبر سياسة الإغتيالات التي ينتهجها الغرب الأوروبي والأميركي ضد قيادات المقاومة الشرعية في المنطقة، وعبر الحصار الخانق على شعوبها لأنها قرّرت مواجهة الظلم الأميركي وحضارة السلاح الفتاك ؟
يصبو التقرير الصهيوني الى إسكات أي صوت حرّ في المنطقة يفضح الكيان الصهيوني والممارسات الإجرامية للدول الغربية. فهو يعتبر كيان العدو كيانا طبيعيا في المنطقة، يجب على الشعوب، من خلال المناهج التعليمية العربية، ليس فقط قبوله بل التحالف معه ضد "محور المقاومة"، وبالتالي، التنكّر لشعب فلسطين ومقاومته وحقه بالحياة الكريمة والحرة على أرضه.
لكن، هل يعتقد معدّو التقرير أن تعليم هذه الأكاذيب الصهيونية والامبريالية الغربية في المدارس العربية قد يغيّر نظرة الشعوب التي تعيش الواقع؟ هل يمكن إزالة العبارات التي تتحدت عن مكر اليهود وخيانتهم للعهود المبرمة أن تغيّر نظرة العرب والمسلمين، وحتى شعوب العالم، الذين يعايشون اليوم تصرفات الصهاينة مع الشعب الفلسطيني؟ يحاول التقرير عكس المشكلة بتصوير المناهج التعليمية بأنها تبث "الكراهية" لأنها تتحدث عن حقائق، في حين أن الواقع، أي وجود الكيان الصهيوني، هو الذي يبث الكراهية، أولا بين الشعوب بتقسيمها الى طوائف وجماعات يعيد تشكيلها وفقا لطموحاته (تقسيم الفلسطينيين الى مسلمين ومسيحيين ودروز وبدو، وأهل لبنان والعراق وسوريا والمغرب والجزائر)، ثم كراهية اليهود في العالم، بسبب ممارساتهم ومكرهم وخيانتهم للقيم الانسانية.
خلافا لهذا التقرير الصهيوني، على الشعوب العربية استعادة المبادرة وتعليم الأجيال الصاعدة الحقائق التي تعيشها، أولها الصراع مع الكيان الصهيوني المجرم، الذي احتل فلسطين ويواصل تشريد الشعب الفلسطيني، ويهدّد أمن المنطقة بدعم الولايات المتحدة والغرب الاستعماري، ثم التعرّف على تاريخ شعوب العالم التي قهرتها هذه الدول، في إفريقيا وآسيا وأميركا، وعلى حضاراتها وثقافاتها.