ما أجمل أن ترتبط معك ذاكرة عظيم بذاكرة الأمة الإسلامية، وما أجمل أن تشترك في استدعائك الروحي لأطلال الأمة برفقة شهيد عظيم رزقك الله صحبته في ركن الحج الأعظم، إنه الشهيد/ محمد أبو عبد الله "أبو مرشد" قائد سرايا القدس الذي كان نعم الرفيق لي في رحلة الحج الأولى عام 2005، فتذوقت معه عذوبة الصلاة والخشوع في بيت الله الحرام الذي بقي صوت إمامه وترتيله عالقاً في ذاكرتي حتى يومنا هذا، وعلت أرواحنا معاً يوم عرفة من ذلك العام ونحن نتتبع ارتفاع أصوات الابتهال والدعاء في ذلك اليوم وفي ذلك الصعيد، وشاركته استذكار توكل سيدتنا هاجر –عليها السلام- على الله بعد أن تُرِكتْ في وادٍ غير زرعٍ عند بيت الله المحرم، فلم يكن من قولها إلا أن قالت :"لن يضيعنا الله"، وزاد يقيننا بالله أن الله لن يضيع هذه الأمة وهذا الشعب وشهداءه وأسراه والمحاصرين منه، وبلغت رحلتنا أقصى درجات جمالها بالصعود إلى جبل النور حيث غار حراء منزل الرسالة، والمولد الحقيقي للأمة، وصرخة النبي الأعظم –صلى الله عليه وآله وسلم- الحرائية لتوحيد الله، فطابت ذكرى هذه الرحلة بهذه الذاكرة التي استحضرت معها شهيداً روحانياً مخلصاً متديناً.
فقيض الله لي التعرف على الشهيد القائد/ محمد أبو عبد الله "أبو مرشد" في غياهب سجن أنصار في غزة عام 1989م الذي مكثنا فيه فترة قصيرةً، لننتقل بعدها إلى سجن أنصار 3 (النقب- كتسعوت) تعرفت فيها على عزيمة إيمانية خبيئة وسلوكٍ قويمٍ ظاهرٍ، وسماتٍ شخصيةٍ لصيقةٍ تؤهل صاحبها لأن يكون قائداً وشاهداً وشهيداً، فالشهيد أبو مرشد الذي طحنته ظروف المخيم العسيرة، لم تفتر عزيمته نحو إعداد نفسه الإعداد الملائم، وصقل شخصيته بقدراتٍ مهنيةٍ واحترافيةٍ عالية، فتخرج من الجامعة الإسلامية بغزة من كلية الاقتصاد رغم مساهمته في إعالة أسرة كبيرة عبر عمله في السوق المحلي أثناء فترة دراسته، حيث كان أحد أساتذته في الجامعة الدكتور/ رمضان عبد الله شلح –رحمه الله- الأمين العام السابق للحركة الذي تعلم منه الكثير، فانضم إلى صفوف الجهاز العسكري لحركة الجهاد الإسلامي نهاية ثمانينيات القرن الماضي، ليتعرض بعدها إلى الاعتقال على يد الاحتلال.
وبعد الإفراج عنه، لعب الشهيد القائد/ أبو مرشد دوراً محورياً في تأسيس الجهاز الأمني لحركة الجهاد الإسلامي وعمل فيه عدة سنوات، حيث كان الشهيد أبو مرشد موهوباً باستخدام الحاسوب وتسخير التكنولوجيا واستخدامها في سياق عمله الجهادي، وإضافةً إلى عمله العسكري والأمني، شغل الشهيد مواقع تنظيمية في الحركة بدءاً بمنطقة سكناه في المحافظة الوسطى متدرجاً حتى شغله مواقع تنظيمية على مستوى القطاع.
ولأن الشهيد/ أبو مرشد كان دائماً صاحب همةٍ عالية، فقد كان منشغلاً معظم الوقت في تحقيق عديد الأهداف في إطار عمله العسكري الذي كان يستنزف معظم وقته، ولكنه –وخلال العامين السابقين على استشهاده-صب تركيزه على تطوير القدرة الصاروخية لسرايا القدس من حيث مدى الصواريخ المطلقة، فقد كانت صواريخ المقاومة الفلسطينية في ذلك الوقت لا يتجاوز مداها سوى بضع كيلومترات، فرغب الشهيد في تطوير هذه الصواريخ أملاً في إثخان أكبر في جانب الاحتلال، وقام بتنفيذ العديد من التجارب الصاروخية أملاً في الوصول إلى ذلك الهدف.
وأمام هذه الخطورة المحتملة التي كان يشكلها الشهيد القائد لعمق الاحتلال، اتخذ قادة الاحتلال قراراً باغتياله، حيث باغتته صواريخ طائرات الاستطلاع غير المأهولة أثناء سيره راجلاً في المحافظة الوسطى برفقة الشهيد القائد/ إبراهيم اللوح، في اليوم السابع والعشرين من شهر ديسمبر من العام 2007م، لتصعد روحه إلى بارئها ويلقى الله شهيداً –بإذنه تعالى-ويختم معه قصة رجلٍ جمع العظمة والتواضع والحنكة والبساطة على ذات درب شقيقه
لاحقاً أكمل إخوان الشهيد/ أبو مرشد في سرايا القدس مشروعه الصاروخي المأمول، ونجحوا في تطوير القدرات الصاروخية لتصبح أبعد مدىً، أكبر إثخاناً، فأصبح عمق الاحتلال متمثلاً بمدينة تل أبيب المحتلة عرضةً لصواريخ المقاومة الفلسطينية، وأصبحت سرايا القدس تمتلك صواريخاً متنوعة ومتعددة، ابتداءً بصواريخ قدس المحلية وصولاً إلى صواريخ البراق بأنواعها، وانتهاءً بصواريخ حمم البدر.
جديرٌ بالذكر أن شقيق الشهيد القائد/ محمد عبد الله "أبو مرشد" هو الشهيد القائد/ عرفات أبو مرشد "أبو عبد الله" الذي تقلد زمام القيادة في المنطقة الوسطى في سرايا القدس، وكان عضواً للمجلس العسكري فيها، واستشهد في نفق الحرية عام 2018 مع ثلة مجاهدة من كوادر سرايا القدس والمقاومة الفلسطينية.
فإخلاص الشهيد أبو مرشد وغيره من الشهداء بارك العمل المتراكم لسرايا القدس على مدار السنين، رحم الله الشهيد القائد/ محمد أبو عبد الله "أبو مرشد" رفيق الأسر ورفيق الفريضة، وأسكنه فسيح جناته، وألحقنا به شهداء مقبلين غير مدبرين، وعلى الله قصد السبيل والله المستعان والحمد لله رب العالمين.