في كلمته للشعب مساء 30 آذار/مارس، كلمة الشرفة، كما تعرف في تركيا، قال إردوغان ‘إن الأمة لا تقهر’. لمن يقرأ السياسة أو التاريخ السياسي، ليس في هذا النص التوكيدي ما هو جديد؛ إذا لا يكاد يوجد زعيم شعبي في التاريخ الحديث لم يقل، بين آونة وأخرى من مسيرته السياسية، أن الأمة لا تقهر. ولكن ثمة سياقا خاصا هذه المرة، سياق يعطي لتعبير رئيس الحكومة التركية ورئيس حزب العدالة والتنمية أبعاده المعنوية الكاملة. تعيش تركيا منذ كانون الأول/ديسمبر الماضي مناخ أزمة، أزمة سياسية وتدافعاً بالغ الحدة حول وجهة البلاد وسلامة مؤسسة الدولة. وقد قال إردوغان دائماً أن الديمقراطية تعني أول ما تعني أن الشعب هو صاحب القرار، وليس النخب أو التنظيمات السرية؛ وفي 30 آذار/مارس، قرر الشعب بالفعل، وجعل قراره واضحاً وصريحاً، لا يقبل التأويل. ولم يكن غريباً بالتالي أن يستدعي إردوغان في خطاب النصر إرادة الأمة، التي راهن عليها من البداية.
قبل كانون الاول/ديسمبر، لم يكن لأحد تصور أن تحتل هذه المناسبة الانتخابية الموقع الذي باتت تحتله في مسيرة تركيا الديمقراطية. فهذه، بعد كل ما يمكن أن يقال، ليست سوى انتخابات محلية، كان من المفترض أن ينصب اهتمام الناخبين فيها على شخصية المرشح وقربه من أبناء مدينته أو بلدته، على سجل انجازاته في النهوض بالمدينة ومراعاة مصالح فئاتها المختلفة، أو وعوده للقيام بذلك في السنوات الخمس القادمة. بمعنى، أن الانتخابات المحلية كانت دائماً حول الخدمات المحلية، تنظيم المدن، مواصلاتها، وأسواقها، ولا تتعلق بالضرورة بالسياسات المركزية للحكومة. وهذا ما جعل الأصوات في المحليات تتشتت بصورة واسعة بين الأحزاب الكبيرة والصغيرة، وبفعل عوامل محلية بحتة في معظم الاحيان، بما في ذلك النفوذ العائلي والعصبيات الأهلية. وكان طبيعياً أن تكون نسب التصويت في المحليات منخفضة نسبياً، وأن تعجز الأحزاب الكبيرة عن الحصول على حصص عالية من الأصوات. ومنذ بدأت التعددية الحزبية في تركيا في 1945، لم يستطع حزب واحد تحقيق 46 بالمائة من الأصوات، إلا حزب العدالة في الانتخابات المحلية التي تلت انقلاب 1960، والتي لم تشهد إقبال أكثر من 40 بالمائة ممن يحق لهم التصويت. في هذه المعركة الانتخابية، وصلت نسبة المصوتين إلى أكثر من ثمانين بالمائة من مجموع من لهم حق التصويت، البالغ 52 مليوناً،؛ وهي نسبة إقبال غير مسبوقة في الانتخابات المحلية. الواضح أن حزب العدالة والتنمية حقق زهاء 46 بالمائة من الأصوات، وبات يسيطر على 49 بلدية من بلديات البلاد الواحدة والثمانين. هذا انتصار كبير لرئيس الحكومة التركية، الذي لم يكن خافياً أن جهات نافذة داخل تركيا، وفي الإقليم المشرقي، كما في الساحة الدولية، كانت تنتظر رحيله صباح 31 آذار/مارس، بعد أن أخفقت في إطاحته خلال الشهور القليلة الماضية.
المسألة الأولى في هذه المناسبة الانتخابية، أن المعارضة، وليس سوى المعارضة، مدعومة بجماعة فتح الله غولن، هي التي حولت الانتخابات من سياقها المحلي التقليدي إلى سياق آخر مختلف تماماً، وحول القضايا الكبرى لمستقبل الدولة والبلاد. وما أن توقفت الانتخابات عن أن تكون محلية وحسب، حتى استجاب عموم الأتراك للتحدي، واحتشدوا لحماية المكتسبات التي حققها نظام العدالة والتنمية خلال أكثر من عشر سنوات من الحكم. بدأت الأزمة، كما أصبح معروفاً، بقضية الفساد المدوية في 17 كانون الأول/ديسمبر، التي تعهدها وكيل للنيابة من المعروفين بقربهم من جماعة غولن، وتلتها قضية أخرى بعد أسبوع، تعهدها أيضاً وكيل نيابة من الجماعة. في كلتا القضيتين، كانت الاتهامات هائلة، وكان المتهمون من دوائر سياسية ودوائر رجال مال وأعمال، أغلبهم من المؤيدين للعدالة والتنمية أو المقربين من شخصيات في الحكومة. ولكن المدهش، في القضيتين، أنها تناولت اتهامات لا صلة بينها، وأن أغلب المتهمين الذين قصد بوضعهم أمام الصحافة وعدسات آلات التصوير، لم تكن ثمة روابط بينهم. كان المقصود بالتأكيد تقديم صورة مضخمة لاتهام الحكومة والحزب الحاكم بالفساد، أكثر من التعامل مع قضية فساد فعلية. ما هو أكثر من ذلك، أن الاتهامات تناولت مدير أكبر بنك تركي، بنك خلق، وأحد المؤسسات المالية الصاعدة بقوة متسارعة في الساحة المالية الأوروبية، إضافة إلى بعض من أكبر رجال الأعمال والإنشاءات في البلاد، الذين يقودون شركات تقف في مقدمة القاطرة الأولى للاقتصاد التركي. قضايا كانون الاول/ديسمبر، باختصار، قصد بها إسقاط الحكومة ورئيسها، وصناعة مناخ من القلق وفقدان اليقين المالي والاقتصادي.
ولكن إردوغان لم يهتز، بالرغم من تزايد الأدلة على وجود تفاهم بين حزب المعارضة الرئيسي، حزب الشعب الجمهوري، وجماعة غولن. وخلال أسابيع قليلة، كان رئيس الحكومة التركية قد اتخذ جملة إجراءات سياسية، بما في ذلك تعديل وزاري واسع، وتشريعية، وتنفيذية. وما إن أصبح واضحاً أن الهجمة الأولى لم تقوض الحكومة ورئيسها، حتى بدأت حملة نشر التسجيلات السرية، التي لم يعد ثمة مجال للشك أنها تستند إلى عملية تنصت تناولت عشرات الآلاف من الأتراك، بما في ذلك كبار رجال الدولة والحكم، طوال الفترة من 2009، نفذت بأدوات الدولة التركية ذاتها، وسربت لجماعة غولن، وأرشفت خارج البلاد. راهن إردوغان طوال شهور الأزمة على حرص الأتراك الموروث على سلامة الدولة، مؤكداً على أن الحملة التي يواجهها ليست حملة سياسية ولا تتعلق بتدافع سياسي تقليدي، بل باختراق واسع لمؤسسة الدولة تتعهده جماعة سياسية سرية، تعمل للسيطرة على قرار الدولة والحكم، بدون أن تتعرض للمحاسبة الشعبية كما في أي نظام ديمقراطي. ليس من الواضح حجم الاستجابة للخطاب الذي تبناه إردوغان خلال الفترة السابقة على انتخابات 20 آذار/مارس، ولكن، وقبل أربعة أيام فقط من يوم الانتخابات، نشرت الجهة التي تحتفظ بأرشيف التسجيلات غير الشرعية، تسجيلاً لجلسة بالغة الحساسية، ضمت وزير الخارجية، ورئيس جهاز الاستخبارات ونائب رئيس أركان الجيش، خصصت لمناقشة الموقف في سوريا. لم يكن من الممكن، حتى للصحف الموالية للمعارضة، سوى وصف نشر التسجيل بالتجسس، ولم يعد ممكناً الجدل بأن مقولة إردوغان في أن الدولة هي المستهدفة كانت صحيحة من البداية.
كان النصر الانتخابي الذي حققه العدالة والتنمية مساء 30 آذار/مارس، بهذا المعنى، نصراً لسياسة الحفاظ على الدولة وسلامتها من التهديد، والحــفاظ على المكتسبات الديمقراطية والاقتصادية التي تحققت خلال العقد الماضي من التبديد.
المسألة الثانية تتعلق بموقف الجانب الآخر لهذه الانتخابات، جانب حزب العدالة والتنمية وحكومته. الواضح أن النضال الرئيسي الذي خاضه الحزب منذ توليه الحكم كان موجهاً ضد النخبة الكمالية، المدنية والعسكرية، التي سيطرت على السلطة والحكم طوال ثمانين عاماً، واعتقدت دائماً أنها تملك البلاد والشعب. في خضم هذا النضال، أجريت تعديلات دستورية واسعة، وسنت تشريعات تناولت مختلف جوانب الحياة وسلطات الدولة، وصولاً إلى سلسلة من المحاكمات التي طالت شبكات نخبوية عسكرية ومدنية، واتهامات بالتآمر على الحكم المنتخب. وبعد 12 سنة من حكم العدالة والتنمية، يمكن القول أن هذا النضال نجح بالفعل في وضع حد لاحتكار النخبة التقليدية للحكم، كما نجح في إخضاع بيروقراطية الدولة العسكرية والمدنية لإرادة الحكومة المنتخبة. ولكن ما لم يلحظه إردوغان وقادة حزبه، ربما، كان هشاشة مؤسسة الدولة الحديثة في بلادنا، حتى في دولة مثل تركيا التي تعتبر وريثة دولة السلطنة في صورتها الأخيرة، دولة ما بعد التنظيمات. ما شهدته تركيا في أشهر الأزمة الأخيرة يشير بوضوح إلى أن جماعة منظمة وسرية، تتمتع بعلاقات ولاء ديني أو شبه ديني، وإمكانيات مادية وخبرات ملموسة، تستطيع بالفعل اختراق أجهزة ودوائر واسعة وبالغة التأثير في جسم الدولة، وتسيير هذه الأجهزة والدوائر لطبقاً لمصالحها وحاجاتها وأهدافها. ما تستدعيه هذه الصورة، إذن، ليس مجرد رد فعل سريع وغاضب على هذا الاختراق، ولكن إعادة بناء لمؤسسة الدولة وأجهزتها، تضمن عدم تكرار مثل هذه الحالة، أو تحد، على الأقل، من تفاقمها. لم يعرف الاجتماع السياسي الإنساني أداة بالغة المضاء والتأثير مثل مؤسسة الدولة الحديثة وتحكمها الواسع في حياة البشر وثقافتهم ونشاطاتهم الاجتماعية. ولا يجب بالتالي أن يسمح، بأي حال من الأحوال، بأن يتعدد مركز قرار الدولة، أو أن يقع قرار الدولة في أيد غير منتخبة، لا تخضع للمحاسبة الشعبية في صورة دورية.
أما المسألة الثالثة فتتعلق بإردوغان نفسه. فقد خاض الزعيم التركي المواجهة خلال الشهور القليلة الماضية بشجاعة وتصميم نادرين. وليس ثمة شك أن عليه تحمل مهمات أخرى قبل الذهاب للانتخابات الرئاسية في آب /أغسطس المقبل، التي أصبح من المرجح أنه سيخوضها، بعد الاستقالة من رئاسة الحكومة والبرلمان. وبينما لا يجب على رئيس الحكومة التهاون، بأي صورة من الصور، في تعهد المهمات الملقاة على عاتقه، بما في ذلك مهمة تطهير وإصلاح وإعادة بناء أجهزة الدولة، فقد بات من الضروي أن يعمل على تخفيف حالة الاستقطاب الحاد التي تعيشها البلاد، سيما وهو في طريقه إلى الترشح لرئاسة الجمهورية. طبقاً للتقاليد التركية، وبغض النظر عن خلفيته السيـاسية، يرى رئيس الجمهورية باعتباره رئيساً للأمــة ككل وليس لمعسكر سياسي ما؛ وهذا ما يجب أن يصبو إليه رجب طيب إردوغان، بعد هذه المسيرة الحافلة في الحياة السياسية الحزبية.