لم تكن تلك النظرات التي كان يوجهها يحيي السنوار الإنسان تُجاه جثمان شقيقته المسجاة أمامه على فراش الموت عابرة قبل مواراتها الثرى، وهي التي لم يمهلها المرض طويلاً حتى غادرت الحياة، نظرات السنوار حملت في طياتها كل معاني الوجع الذي يهد الجبال، ولكن الرجل حاول أن يخفي مشاعره خلف مكانته الاجتماعية، ووراء شخصية التي لا تظهر إلا قوية في المناسبات كافة، فالسنوار الذي كان يحرص على الظهور بموقف الصلب المتماسك، كان يتمنى في داخله أن يبكى بصوت عالٍ، فهذا المشهد يستدعي البكاء، بعد أن غيبه الاحتلال عن شقيقته نحو قرن من الزمان.
فيحيى الذي اضطر أن يفارق شقيقته وأهلَه مجبراً في العشرينيات من عمره، غابت عنه الكثير من تفاصيل الحياة اليومية التي تتوفر لملايين البشر، فكان يحيى يكبر خلف القضبان، وخارجها كانت تكبر شقيقته جميلة، كان يعيش حلم الأمل بالحرية، وكانت شقيقته تنتظر ذلك اليوم، وفي الوقت الذي كانت تمر فيه سنوات الاعتقال، كانت الحياة تسير خارجه بكل ما تحمله من تفاصيل.
تحرر يحيى قبل عشر سنوات في صفقة وفاء الاحرار، ورغم أن كل شيء تغير وتبدل؛ فالدنيا لم تكن تلك التي تركها قبل ربع قرن من الزمان، وعندما حانت لحظة تعويض ما فات من حرمان، كانت المسؤولية تلاحق الرجل الذي تقلد رئاسة حركة حماس بغزة، وبما يقتضيه هذا التكليف من عبءٍ كبير وانشغالٍ أكبر، فهو يؤجل كل محاولات العودة لحضن الأهل بكل ما يتطلبه من وجود دائمٍ بجانبهم وإعطاء المناسبات العائلية والاجتماعية حقها، أو حتى محاولة استعادة بعضاً من ذكريات الطفولة وريعان الشباب، هذا التأجيل للحياة الاجتماعية كان في مقابله عمرٌ يسير مسرعاً، يخطف معه كل جميل، فجميلة الشقيقة التي انتظرها يحيى وانتظرته، عاجلها المرض الذي لم يمهلها طويلاً حتى فارقت الحياة.
وعلى أطلال قبرها وقف شقيقها قبل مواراتها الثرى بلحظات خاطفة، وبنظرات على جثمانها المسجى أمامه، وكأني به يقول تمهلي يا شقيقتي، لمَ غادرت على حين غفلة، لم تكتحل العين ولم تشبع من رؤياك.
وأمام نظرات الاندهاش ومحاولة عدم تصديق ما يجري، كان يحيى يستحضر شريط العمر الذي يمر على عجل، لتعلو أصوات الحاضرين لتخبره أن لحظات مغادرة القبر حانت، فالمشيعون سبقوا إلى بيت العزاء.
وآخر أيام العزاء لم يكن يحمل الحزن على وداع الشقيقة فحسب، بل إن هناك خبراً صاعقاً في الطريق لا يقل ألماً ووجعاً، فالأب الذي انتظر على باب بيته خمسة وعشرين عاماً لعودة فلذة كبدة، جاء خبر وفاته ليزيد على الحزن حزناً أشد وأعظم.
فالأب الذي كان يأمل أن يستمتع فيما تبقى من عمره إلى جانب نجله المحرر، الذي سرعان ما تحمل أعباء المسؤولية، يغادر الآن دون عودة؛ لتتحول عشر سنوات بعد حرية الابن لثوانٍ معدودة، لم تكن كفيلة أن تكتحل العين برؤية بطله وهو يرتقي أعلى الدرجات، ولم تسعفه بعدما كان الموت إليه أقرب؛ ليودع الحياة، ويكمل مسلسل الحرمان الذي لازم الأسير المحرر يحيى، الذي يفقد اثنين من أغلى ما يملك في أسبوع واحد أو أقل.
قصة يحيى التي توزعت بين الفراق والفراق، باتت تُجسد الحالة التي يعيشها عشرات الآلاف ممن تحرروا من الأسر أو من يمكثون خلف القضبان، آملين يعودوا للأهل والأحبة، وهي قصة باتت تجسيداً جلياً لمن يخرجون من سجون الاحتلال منشغلين بتفاصيل حياة شعبهم وقضيتهم.