ما تمنينا حدوثه فى مصر. تلقينا أنباءه من لندن. إذ كنت واحدا ممن بحت أصواتهم داعين إلى إجراء تحقيق نزيه فى حوادث الإرهاب التى شهدتها البلاد. للتعرف على مرتكبيها ومحاسبتهم قضائيا وسياسيا. وقد تحقق شىء من ذلك حين زفت إلينا وكالات الأنباء الخبر من لندن أمس الأول (الثلاثاء 1/4) حين نقلت إلينا قرار رئيس الوزراء البريطانى ديفيد كاميرون إجراء تحقيق حول أنشطة جماعة الإخوان الموجودين فى بريطانيا، بعد تصنيفها جماعة «إرهابية» فى مصر والسعودية ودولة الإمارات.
ووفقا لما بثته وكالة الأنباء الفرنسية على لسان المتحدث باسم كاميرون فإن القرار صدر «بالنظر إلى القلق المعلن بشأن الجماعة وعلاقاتها المفترضة بالتطرف والعنف حيث أصبح من الصواب والحكمة أن تفهم الحكومة البريطانية بشكل أفضل ما يمثله الإخوان وكيف ينوون تحقيق أهدافهم وانعكاسات ذلك على بريطانيا».
لا أتصور أن الحكومة البريطانية كانت مغمضة الأعين أو غافلة عن تحركات الإخوان وأنشطتهم فى لندن، خصوصا أن أعدادا منهم تقيم فى المملكة المتحدة منذ سنوات، وبعضهم حاصل على الجنسية البريطانية. ولهم حقوقهم التى ضمنها القانون. علما بأن الموجودين هناك أكثرهم مصريون حقا، لكن نسبة غير قليلة منهم من أبناء الدول العربية الإسلامية الأخرى. وجميعهم تحت الرقابة طول الوقت. وقد تحدثت التقارير التى خرجت من بريطانيا عن أن القرار اتخذ استجابة لضغوط مارستها مصر والسعودية والإمارات، ضمن جهود الدول الثلاث لملاحقة الإخوان والحد من أنشطتهم، ومع ذلك فإن الخطوة لها أهمية خاصة لا يمكن تجاهلها. ومعروف أن حكومة السعودية كانت قد مارست فى تسعينيات القرن الماضى ضغوطا مماثلة على الحكومة البريطانية حين كان على رأسها جون ميجور، واستهدفت طرد اثنين من السعوديين المعارضين (سعد الفقيه ومحمد المسعرى) وهددت فى ذلك بإلغاء صفقة لشراء السلاح بقيمة 70 مليار دولار (عرفت باسم صفقة اليمامة) لكن تلك الجهود لم تنجح ولايزال الاثنان يقيمان فى بريطانيا حتى هذه اللحظة.
القرار الذى أصدره ديفيد كاميرون يستمد أهميته من أربعة أمور أساسية، أولها أن التحقيق فى الأمر يتم دون حكم مسبق، بمعنى أنه يسعى إلى التثبت مما إذا كانت الجماعة تجنح إلى التطرف أو تمارس الإرهاب أم لا، وليس الهدف منه السعى لإثبات التهمة المقررة سلفا. الأمر الثانى أنه يتم فى دولة تحترم حرية التعبير وللقانون أقدامه الراسخة فيها الأمر الذى يوفر للتحقيق قدرا كافيا من النزاهة والحياد. الأمر الثالث أن الحدود واضحة هناك بين القضاء والسياسة، علما بأن للقضاء أحكامه الكثيرة التى عارضت السياسة وتحدَّتها. الأمر الرابع أن فى بريطانيا مؤسسات مستقلة قوية قادرة على أن تصوب أى انحراف أو شبهة مجاملة فى مسلك الحكومة أو مؤسساتها الرسمية.
لقد ذكرت الصحف أن اللجنة التى شكلها السيد كاميرون سوف يترأسها سفير سابق لبريطانيا فى السعودية، وسيكون من بين الأعضاء أحد السفراء الذين عملوا فى القاهرة.
وقد نوهت بعض الصحف إلى ذلك فى إيحاء باحتمال تعاطف رئيس اللجنة وبعض أعضائها مع وجهة النظر السعودية والإماراتية وموقف السياسة المصرية. وهو احتمال قائم إلا أنه ليس مزعجا كثيرا، لأن أهواء بعض أعضاء اللجنة يمكن وضع حد لها فى كل الأحوال. وستظل فى أسوأ فروضها محكومة بسقف القانون وحدوده. ناهيك عن أن تقرير اللجنة سوف يناقش فى مجلس العموم، وبالتالى فإنه سوف يعرض قبل إجازته على ممثلى الشعب المنتخبين. ورغم أن إعداد ذلك التقرير قد يستغرق عدة أشهر، إلا أن المؤكد أن الحكومة البريطانية لن تكون مستعدة لإهدار سمعتها فى احترام الحريات والقانون مجاملة للدول الصديقة، وستحاول قدر الإمكان التوفيق بين مصالحها ومبادئها.
لا يسعنا فى هذا الصدد إلا أن نقرر أن ذلك الملف المهم والخطير لم يحظ فى مصر بأى قدر من التحقيق النزيه، إضافة إلى أن القرارات الأساسية المتعلقة به كانت سياسية أيدتها التقارير الأمنية، كما أن المحاكمات كلها والإدانات تمت فى وسائل الإعلام الموجهة من جانب الأجهزة الأمنية أو المخترقة من عناصرها. ولن أمل من التذكير فى هذا الصدد بما انتهت إليه اللجنة القانونية التى شكلت لتقصى حقائق ثورة 25 يناير، برئاسة المستشار عادل قورة رئيس محكمة النقض الأسبق. وكيف أن التقرير دفن وتم تجاهله لأنه اتهم الشرطة بممارسة العنف. ثم جرى تكييف أحداث تلك الفترة فى ضوء تقارير الأجهزة الأمنية التى عبرت عن الأهواء السياسية بأكثر مما تحرت الحقيقة بحياد وموضوعية.
لقد تحدثت التقارير الصحفية عن أن البريطانيين أبلغوا السعوديين على الأقل بأن حكومتهم لا تستطيع من جانبها إصدار قرار بإدانة أى فصيل سياسى واتهامه بالتطرف أو العنف، ما لم يسبق ذلك تحقيق يؤيد الادعاء ويثبته. وفى ذلك إشارة غير مباشرة إلى الفرق بين دولة ديمقراطية يحكمها القانون ودول أخرى يحكمها الهوى وتعتبر السياسة فوق القانون. ولأن الأمر كذلك فإننى أزعم أن التحقيق البريطانى له أهميته البالغة، من حيث إنه فى أسوأ فروضه لن يهدر الحقيقة، ولن يبتعد كثيرا عن الإنصاف. وتلك غاية المراد من رب العباد