خلال الانتفاضة الأخيرة، سجّل أطفال النقب مواقف بطولية في وجه العدو الصهيوني تمثلت برشق شرطته بالحجارة وحرق آلياته والإطارات، ونزع شتلات "الصندوق القومي اليهودي" التي زرعها في أراضيهم للسطو عليها بعد جرفها، والمشاركة الفعّالة في التظاهرات الاحتجاجية ضد نهب الأرض وتدمير القرى، والدفاع عن البيوت والممتلكات.
يعاني أطفال النقب من الاحتلال الصهيوني منذ بداية المشروع الإستعماري في البلاد. لقد واجهوا القتل والملاحقة والاغتصاب على يد أوائل المستوطنين المسلحين الذي استولوا على الأرض وبنوا مستوطناتهم خلال الاحتلال البريطاني. وبعد الاحتلال الصهيوني، كانوا أولى ضحايا الهمجية الإستيطانية التي تمثلت بتشريد الآلاف من عائلاتهم الى سيناء والأردن، والمجازر التي ارتكبها جيش العدو بحقهم، ومحاصرتهم في منطقة "السياج" شمال النقب، التي يسعى الصهاينة للاستيلاء عليها الآن.
استمرت عملية قهر وملاحقة أطفال النقب من خلال سياسة رفض بناء المدارس والمستوصفات في القرى غير المعترف بها وعدم شق الطرقات الموصلة اليها، فيضطرون للمشي لساعات في البرد أو الحرّ للوصول الى المدارس، رفضا للتخلي عن قراهم وأراضيهم. وشاهدوا كيف دمّرت جرافات الاحتلال رياض أطفال في بعض قراهم، لأنها لم تكن مرخصة من قبل العدو. وعندما تهدم بيوتهم على رؤوسهم، كما يحصل في قرية العراقيب منذ سنوات، يدركون أن ثمن حريتهم والبقاء في أرضهم هو في تضحياتهم اليومية.
خلال غزوة الصهاينة الأخيرة على النقب وأهلها، لم يسلم الأطفال من همجية الغزاة. تشير الاحصائيات أن ثلث المعتقلين هم من القاصرين، شبانا وفتيات. وفي قرية الزرنوق، هجم 30 شرطيا على الطفل عمار أبو قويدر (10 سنوات) لاعتقاله وهو نائم في سريره، بعد اقتحام منزله فجرا، وأبقوه في الاعتقال لمدة 8 ساعات.
إن كان من قبل الشرطة أو الجيش، أو طليعة الكيان الوحشية المتمثلة بقطعان المستوطنين ونوابهم في الكنيست، فاستهداف أطفال فلسطين بات أمرا عاديا جدا لمنظومة إستعمارية قمعية تنتقم من أهلهم عبر تعذيبهم واعتقالهم (اعتقال ألف طفل منذ 2021) لأنها ترى فيهم جيل المستقبل الذي يهدّد بقاء الكيان ويعيد فلسطين الى أهلها.
"هبوب الريح"
في انتفاضة النقب، واجه الأطفال شرطة العدو ومنظومته الاستيطانية واستعادوا سيرة أبطالهم الذين دوّخوا المحتل، ومن بينهم، وربّما الأهم، "هبوب الريح"، لقب الشهيد عيد الصانع الترباني، الذي صارع الاحتلال البريطاني لمدة عشر سنوات.
ولد الشهيد عيد سليمان الصانع الترباني عام 1892 في بئر السبع. رفض وجود القوات البريطانية في وطنه، لا سيما وأنها كانت ترغم السكان الأصليين، البدو، على ترك أراضيهم وآبار المياه لصالح المستوطنات التي كانت تحميها، وكانت تشنّ الهجمات على أهل النقب للاستيلاء على سلاحهم، التي جمعوها من مخلفات الجيش العثماني، فيما كانت تغضّ النظر عن تسلحّ المستوطنين الصهاينة.
أدرك أهل النقب باكرا أن الاحتلال البريطاني جاء ليساعد الصهاينة على احتلال فلسطين، رغم محاولته لاسترضاء بعض العشائر في المنطقة من خلال الاعتراف بالمحاكم العشائرية وامتلاكهم للأراضي.
أشار اسماعيل بن عياد النعيمي النجمي الترباني، في مدونته، الى أنه في العام 1922، عثر عيد الصانع الترباني ورفاقه على مخابئ أسلحة، فقاموا بنقلها لإعادة توزيعها وتخزينها في أماكن أخرى في النقب. وخلال النقل، اعتقلته القوات البريطانية وعذّبته لكي يعترف على أخوانه وعلى مخازن الأسلحة. لكنه استطاع الهرب ليعيش حياة التشريد والملاحقة. فقرّر "الانتقام من كل غريب تطأ قدمه أرض بئر السبع". فنصب الكمائن لقوافل الجند والشرطة، وقطع الطرق أمامهم وأطلق النار عليهم، موقعا الخسائر في صفوفهم، ولأنه كان سريع الحركة والاختباء، لم يتمكن الجيش البريطاني من اعتقاله او العثور عليه طيلة عشر سنوات، من 1922 الى 1932.
كما هي عادة الغزاة والمحتلين، اعتبر الجيش البريطاني الشهيد عيد مجرما خارجا عن القانون، فعرض مكافأة 250 جنيها لمن يدلي بمعلومات عنه و500 جنيها لمن يعتقله أو يقتله، كما ورد في المسلسل الأردني (هبوب الريح) الذي عرض سيرته البطولية.
حاول المحتلون القبض عليه عبر اعتقال مشايخ عشيرته، للنيل منه، كما يفعل اليوم الصهاينة مع أهل المقاومين في الضفة الغربية والقدس، لكن "حصل اضطراب وهيجان" في بئر السبع واضطر الانكليز للإفراج عنهم مع تعهدهم بعدم ايواء "هؤلاء المطاريد والمحافظة على الأمن والهدوء".
لقد جمع الشهيد عيد الترباني حوله ما يقارب ال20 من رفاقه، "من شبان القبيلة مجهزين بالأسلحة والخيول العربية الأصيلة لقنص رجال البوليس والجند ومهاجمة القوافل...فأرهقهم بعملياته البطولية، فأطلق عليه لقب "هبوب الريح" لسرعة تنفيذه عملياته وسرعة اختفائه".
في يوم 24/10/1932، استشهد عيد الصانع الترباني بعد معركه خاضها مع قوة كبيرة من الجيش الانجليزي تمكنت من محاصرته مع عصبة من رفاقه المقاتلين. رفض الترباني الاستسلام بعد أن أحكموا عليه الطوق واستمر يقاوم ومن معه حتى نفذت الذخيرة.
بين الترباني والشيخ القسام
في الوقت الذي كان فيه الشيخ عزالدين القسام يبني تنظيمه الجهادي في شمال فلسطين ليطلق مقاومة شعبية مسلّحة ضد القوات البريطانية والمستوطنين الصهاينة، كان عيد الترباني يخوض المعركة في جنوب فلسطين، مع أبناء عشيرته، ليخلّص البلاد من حكم الغرباء.
تختلف سيرة الشهيد عزالدين القسام عن سيرة الشهيد عيد الترباني، كما تختلف البيئة التي عملا بها، الصحراء في الجنوب والمدينة والقرى في الشمال، وقد تختلف العقيدة أو الفكرة التي انطلقا منها لمواجهة المحتلين، وكيفية العمل لتشكيل قوة طليعية تبث روح الثورة. ولكن رغم ذلك، أدركا أن أساس البلاء في فلسطين والمنطقة هو الاحتلال البريطاني، خلافا للقيادة الوطنية في تلك المرحلة ولأحزابها وكبار الملاكين والتجار المتعاونين مع البريطانيين: الشيخ الشهيد عزالدين القسام من خلال عقيدته الدينية والفكرية وتاريخه المقاوم في سوريا ضد الاحتلال الفرنسي، والشهيد عيد الترباني من خلال معاناته ومعايشته لبداية الاستيطان الصهيوني في أرض النقب ومساعدة البريطانيين الملموسة للغزاة، رغم تملّقهم لبعض المشايخ.
ساهمت منطقة النقب وبئر السبع لاحقا بثورة 1936-1939 ضد البريطانيين، وتمكّن الثوار من تحرير مدينة بئر السبع، أول مدينة يتم تحريرها من الحكم البريطاني في تلك الفترة، بمساعدة ثوار منطقة الخليل، كما يسرد أحد سكان بئر السبع (مسلم وجيه بسيسو، صحافي) إذ يقول "أجانا فزعة من بدو بئر السبع وقرى الخليل وفزعة من غزة". كما شاركت في الثورات والاحتجاجات التي لحقت رفضا للوجود الصهيوني والأجنبي في فلسطين.
فكانت منطقة النقب، بعد اتفاقيات أوسلو، وخاصة بعد الانسحاب "الإسرائيلي" من قطاع غزة (2005)، إحدى المنطقتين المستهدفة بالاستيطان الصهيوني تحت مسمى "تطوير الجليل والنقب". تشكلت "الدوريات الخضراء" لملاحقة الفلسطينيين وقتل المواشي، وظلّ أطفال النقب أهم ضحايا المخططات التهويدية الصهيونية التي لم تهدأ الى اليوم.