لا يخفى على أي متابع فلسطيني أنه لم يغب عن المداولات في الحكومة الإسرائيلية وأجهزتها الاستخباراتية والأمنية، مستقبل الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وهاجس من سيرثه في الحكم. تتداول وسائل الإعلام الإسرائيلية معلومات وتحليلات حول التداعيات على الساحة الفلسطينية في اليوم الذي قد يلي عهد الرئيس عباس، والصراع على تركته، ما يثير قلق المسؤولين في إسرائيل، من أن تتحول المعركة على قيادة السلطة “إلى فوضى عنيفة سرعان ما تنتقل إلى إسرائيل وتعطل حياة المستوطنين في الضفة”. هذه الفوضى ستؤدي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية في الضفة وستؤدي إلى انهيار “حركة فتح” وتحول التنظيم إلى مجموعات مسلحة، تعمل لمصلحة القادة المحليين، ما سيسمح لـ”حماس” بالاستيلاء على السلطة، وسيحبط أي فرصة للتوصل إلى تسوية سياسية للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. ترى الحكومة الإسرائيلية أن سيناريو الفوضى ممكن، ويجب فعل أي شيء لإحباطه. وتعمل على محورين لمنع حدوث هذا السيناريو، من خلال تعزيز السلطة الفلسطينية، واتخاذ خطوات مشتركة مع قيادتها لتحسين الوضع الاقتصادي وجودة حياة الفلسطينيين في الضفة، لتعزيز التأييد الشعبي لمحمود عباس وسلطته. هذه الخطوات ستكون حافزاً للسلطة وأجهزتها الأمنية للسيطرة على التيار المركزي في “حركة فتح”، بخاصة في مخيمات اللاجئين والمؤسسات السياسية التابعة للحركة، وتحسين الرفاه الاقتصادي والاجتماعي سيكون حافزاً لكبح جماح العناصر العنيفة (على حد تعبيره) التي ستحاول الاستيلاء على القيادة، وسيساهم بنقل منظم للسلطة بين سياسيي “حركة فتح”.
وفي ما يتعلق بمن سيخلف الرئيس عباس ووفقاً لما تناقلته وسائل إعلام ومحللون إسرائيليون، فإن الحكومة الإسرائيلية تسعى إلى خلق ظروف لانتقال سلس للسلطة، لتقسم تركة أبو مازن (رئاسة منظمة التحرير، ورئاسة السلطة، ورئاسة حركة فتح) على اثنين أو ثلاثة من رفاقه. وتشير تقديرات عدد من الصحافيين وبعض وسائل الإعلام الإسرائيلية، إلى أن الشخص الذي يتم تأهيله لخلافة الرئيس عباس، هو حسين الشيخ عضو اللجنة المركزية لـ”حركة فتح” ووزير الشؤون المدنية، والذي تم تعيينه راهناً في منصب أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، أثناء انعقاد المجلس المركزي الفلسطيني في رام الله. ورأى صحافيون إسرائيليون نقلاً عن مصادر في الحكومية الإسرائيلية، أنه لا يوجد شخص واحد في “فتح” وخارجها في السلطة الفلسطينية يمكن أن يخلف عباس، لذلك يفكر كبار المسؤولين في حكومة بينيت ومسؤولون أمنيون في إسرائيل، إلى جانب شخصيات بارزة في “فتح”، في تشكيل مجموعة قيادية يتشارك أعضاؤها دون نزاع المناصب التي يشغلها عباس حالياً. والهدف من تشكيل هذه المجموعة هو العمل بتناغم وتنسيق يسمح بتقوية السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، ويعطي المجال لحركة فتح للتعافي، لفترة انتقالية على الأقل. السلطة الفلسطينية تعيش أوضاعا اقتصادية صعبة وتعاني من تراجع الدعم المالي من الاتحاد الأوروبي والدول العربية، وهي ليست المرة الاولى التي تعاني من الضائقة الاقتصادية والمالية الممتدة منذ قيامها عام 1994 وحتى اليوم، على رغم محاولات إنعاشها المتكررة خلال العقود الثلاثة الماضية. وعملت إسرائيل خلالها بالتحلل من اتفاق أوسلو بخاصة في سنوات حكم رئيس الوزراء السابق بنيامين نتانياهو التي استمرت 13 عاماً، والذي صرح أكثر من مرة عام 2016، بأن على إسرائيل الاستعداد لاحتمال انهيار السلطة الفلسطينية التي أصبحت مسألة وقت، وأنه يجب منع حدوث ذلك قدر الإمكان، والاستعداد في المقابل لإمكانية حدوثه وانعكاسه على إسرائيل من الناحيتين الأمنية والمدنية. في الوقت ذاته، سمح لوزير المالية موشيه كحلون بتقديم تسهيلات اقتصادية كبيرة للسلطة الفلسطينية للخروج من أزمتها الاقتصادية. ودائماً ما كانت تصدر تحذيرات إسرائيلية بخاصة من الأجهزة الأمنية من إمكانية انهيار السلطة الفلسطينية، واندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة، وازدادت هذه التحذيرات منذ هبة القدس عام 2015، وما سمي بانتفاضة “السكاكين”، وتناولت وقتذاك وسائل إعلام الإسرائيلية ومحللون إسرائيليون سيناريوات تفكك السلطة الفلسطينية أو انهيارها، وأنه بات أمراً لا رجعة عنه، وتناول كثيرون حالة اليأس التي مر بها الرئيس محمود عباس، ما يشير إلى أن احتمالات سقوط السلطة تتعاظم يوماً بعد يوم، وسط تخوف من تدحرج كرة الثلج بحيث يدخل إلى الانتفاضة عناصر مسلحون من “حركة فتح”. ما كان يقلق إسرائيل في حينه ويقلقها الآن هو القضاء على المقاومة الفلسطينية المسلحة، وكيفية تفكيكها والقضاء على المقاومين، وهو هاجس حيّ في أذهان القادة الإسرائيليين لتنفيذ عملية عسكرية على غرار عملية “السور الواقي” عام 2002، التي اجتاحت فيها اسرائيل الضفة الغربية، “لاستعادة الأمن الإسرائيلي”.
إسرائيل عملت على إضعاف السلطة، وحصر وظيفتها في التنسيق والتعاون الأمني، واستمرار سياساتها في تعميق الاستيطان والجرائم اليومية التي ترتكبها القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية. حتى إن وزير الخارجية الأميركي جون كيري حذر إسرائيل من مخاطر انهيار محتمل للسلطة الفلسطينية، قائلاً إنه سيؤدي إلى حالة من شأنها أن تهدد أمن إسرائيل والشعب الفلسطيني، مشدداً على ضرورة عدم السماح بتفكك السلطة الفلسطينية وانهيارها. النقاش الدائر في أروقة الحكومة الإسرائيلية واجهزتها الأمنية ويشارك فيه محللون وصحافيون ووسائل إعلام إسرائيلية، يثبت كيف تحاول إسرائيل وضع جدول أعمال الفلسطينيين وكيفية إدارة شؤونهم السياسية والحياتية، في ظل استمرار السياسات القديمة الجدية، واستبعاد أي مشروع سياسي وتفاوضي يعتمد على المواثيق الدولية وحل الدولتين. عملت الحكومات الإسرائيلية السابقة على الحفاظ على الوضع القائم، والسماح للعمال الفلسطينيين بالعمل داخل المستوطنات الإسرائيلية وداخل الخط الأخضر، في محاولة لمنع هذه الفئة من المشاركة في مقاومة الاحتلال، وهي السياسة التي طبقها في حينه رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي غادي ازينكوت، والسماح لعشرات الآلاف من العمال بالدخول، ووفقاً لمصادر غير رسمية، فإن عدد العمال الفلسطينيين الذين يعملون داخل الخط الأخضر بلغ حوالى 200 ألف عامل فلسطيني من الضفة نصفهم بدون تصاريح رسمية. وفي حينه راهنت إسرائيل على بقاء الرئيس محمود عباس، وعدم انهيار السلطة، لكنها في المقابل عملت بشكل حثيث على إضعافها. كما عملت السلطة الفلسطينية على إضعاف نفسها، من خلال سياسات اقتصادية عقيمة، ووهم بناء الدولة تحت حراب الاحتلال الذي يصادر جميع الموارد المتاحة، وغياب الديموقراطية والحكم الرشيد، وعدم احترام حقوق الإنسان والحريات العامة، وتفشي الفساد وتغول الأجهزة الأمنية. إسرائيل تخشى على مستقبل السلطة ومن سيرث الحكم، بعد الرئيس عباس، وترى في بقاء السلطة الفلسطينية مصلحة عليا للحفاظ على أمنها، وتسعى للحفاظ عليها كجسم قوي يتمتع بشرعية لحكم الفلسطينيين، ولا توجد جهات أو بدائل إسرائيلية قد تتحمل أعباء الفلسطينيين وتلبي احتياجاتهم، وتوفر الظروف المعيشية والخدماتية بشكل أفضل من السلطة الفلسطينية. كما بات واضحاً أن إسرائيل لن تقدم أي مشاريع لحل الصراع الإسرائيلي، فهي مستمرة في ضم أراضي الضفة الغربية، وحسم الصراع من خلال سياسات وخطط وأدوات ونظريات تقليص الصراع، وحلول اقتصادية، في ظل تعميق الانقسام وتأبيده، ومنح شرعية لشخصيات على رأس النظام السياسي الفلسطيني، بما يخدم المصلحة الإسرائيلية.