مسّادا كلمة عبرية تُشير إلى قلعة فوق جبل صخري، تطل على الشاطئ الغربي للبحر الميت، أصلها بالعربية جبل مسعدة، وقصتها بحسب الأسطورة اليهودية وقعت في العهد الروماني بعد التمرّد اليهودي في القدس عام 70 للميلاد، عندما هرب نحو ألف يهودي إلى القلعة، وتحصّنوا فيها، فلحقهم الجيش الروماني وحاصر القلعة لمدة ثلاثة شهور، حتى تمكن من فتح ثغرة فيها واقتحمها عام 73م، فاتخذ اليهود المتحصّنين في القلعة قراراً بالانتحار الجماعي كي لا يقعوا في أسر الرومان، ويكون مصيرهم العبودية والقتل، ففضّلوا الموت على الذلّة، بحسب الرواية اليهودية، المنقولة عن المؤرخ اليهودي يوسفوس فلافيوس، نقلاً عن امرأتين يهوديتين نجتا من القلعة، وسجّلها عبد الوهاب المسيري في موسوعته "اليهود واليهودية والصهيونية".
اتخذت الحركة الصهيونية من الرواية اليهودية المشكوك في صحتها علمياً (مأساة مسّادا) رمزاً "للبطولة اليهودية"، التي تفضّل الموت على حياة العبودية، وحوّلت أسطورة مسّادا إلى عقيدة مقدّسة، واتخذتها رمزاً لصمود "الشعب اليهودي"، ودافعاً للتضحية والفداء من أجل الحرية، وتحريضاً على الموت من أجل الأرض. واتخذها جيش الاحتلال الإسرائيلي مكاناً لمراسم حلف اليمين السنوية للجنود الجدد، كرمزٍ وطني مقدس لا يقل أهمية عن "حائط المبكى" وفق تسميتهم (أي "حائط البراق") كرمزٍ ديني مقدس، فيحلف الجنود بأنَّ "مسّادا لن تسقط ثانية".
وعندما زار الرئيس الأميركي جورج بوش الابن الكيان الصهيوني، زار قلعة مسّادا، وأقسم أمام الكنيست الإسرائيلي "أنَّ مسّادا لن تسقط ثانية".
قسَم الجنود وبوش أنَّ "مسّادا لن تسقط ثانية" هو من باب الأحلام التي لا يوجد لها مصداقية واقعية وتاريخية ودينية، فكل مُعطيات الواقع، وحقائق التاريخ، ونصوص الدين، تؤكد أنَّ المسّادا الكبرى المُسمّاة "إسرائيل" ستسقط كما سقطت المسّادا الصُغرى، فلعنة "عُصاب المصير" التي ساقت اليهود إلى التدمير الذاتي انتحاراً – بحسب الرواية اليهودية – ستتكرر وتسوق اليهود في الكيان الصهيوني إلى التدمير الذاتي بأيديهم، وتستدعي التدمير الخارجي بأيدي غيرهم، كما حدث ذلك مرات عديدة على مرّ التاريخ، كما أخبرنا القرآن الكريم "يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ"، فعصاب المصير أو القدر هو المأزق اليهودي الوجودي الذي يتكرر عبر التاريخ، ويؤدي بهم إلى نهايات واحدة مأسوية، صنعوها بأيديهم بسبب إيمانهم بعقيدة عنصرية استعلائية، تحتقر الآخرين (الغوييم)، وتستجلب عداءهم وغضبهم وانتقامهم... ولن تفلت "إسرائيل" من تلك النهاية المأسوية الانتحارية.
عُصاب المصير اليهودي والمأزق الوجودي الإسرائيلي عبّر عنهما ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني، بقوله: "إنَّ جوهر مشكلتنا الأمنية هو وجودنا بالذات، وهذا هو المعنى الفظيع لمشكلتنا الأمنية"، مُعبّراً عن ارتباط فقدان الأمن بفقدان الوجود كحالة خاصة من بين دول العالم، وحتى بعد انتصار "إسرائيل" في ثلاث حروب متتالية، من النكبة إلى النكسة مروراً بالعدوان الثلاثي، ظلَّ المأزق الوجودي الذي يسكنها، وكاد يؤدي إلى انهيارها في حرب أكتوبر عام 1973م لولا الدعم الأميركي والتراجع العربي، ولم تؤدِّ حرب لبنان الأولى عام 1982م – رغم انتصارها العسكري – إلى التخلّص من مأزقها الوجودي بسبب ظهور المقاومة الإسلامية اللبنانية (حزب الله)، ثم بدء الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987م، ثم الانسحاب الإسرائيلي من لبنان عام 2000م، فالانسحاب من قطاع غزة عام 2005م تحت ضربات المقاومة العربية – اللبنانية والفلسطينية – من دون شروط أو قيود، ولتبدأ مرحلة حروب المقاومة التي عمّقت المأزق الوجودي للمسّادا الكبرى.
هزيمة حرب تموز/ يونيو عام 2006م المؤكدة إسرائيلياً، بحسب تقرير لجنة القاضي إلياهو فينوغراد، ومنها: "إنَّ هذه الحرب شكّلت إخفاقاً كبيراً وخطيراً. لقد اكتشفنا وجود ثغرات خطيرة على أعلى المستويات الهرمية السياسية والعسكرية". وحروب غزة الأربع، وآخرها "سيف القدس" في أيار/ مايو 2021م، التي كانت الهزيمة الإسرائيلية واضحة فيها، أدخلت المسّادا الكبرى "إسرائيل" في مرحلة جديدة من عُصابها المصيري ومأزقها الوجودي، أصبح فيها المشروع الصهيوني وكيانه الصهيوني مُصاباً في قلبه وجوهر وجوده، وهو ثلاثي الأمن والهجرة والاستيطان؛ فالكيان الصهيوني أكثر الدول خطراً على اليهود في العالم، والتهديد الديمغرافي تفاقم بعد تساوي عدد العرب واليهود ما بين البحر والنهر، وتساوي الهجرة المعاكسة مع الهجرة القادمة تقريباً، ولم يُعد الجيش الإسرائيلي (الذي لا يُقهر) قادراً على حسم أي معركة والتفاخر بالنصر الحاسم، وأُضيف مأزق النصر إلى سلسلة مآزق الكيان الصهيوني المهدّدة لوجوده.
مأزق النصر الوجودي ربطته لجنة فينوغراد بعد هزيمة تموز 2006م ببقاء الكيان، فجاء في التقرير "إنَّ صحة مقولة لا يوجد حل عسكري تعني أنَّ إسرائيل لن تستطيع البقاء في هذه المنطقة".
وبرز ذلك بعد حروب المقاومة في غزة التي جعلت رئيس هيئة أركان الحرب الإسرائيلي أفيف كوخافي يعقد ورشة عمل من كبار الضباط والخبراء والمفكرين الصهاينة اسمها "ورشة النصر"، مهمتها إيجاد مفهوم جديد للنصر بعد استحالة تحقيقه ضد المقاومة، فخرجوا بتعريفات متواضعة للنصر راوحت بين زيادة المدة الزمنية بين جولات المعارك، وتحسين الوضع الأمني بعد كل جولة حرب. وقد أكد ذلك المأزق رئيس وزراء الكيان نفتالي بينيت قبل تولّيه منصبه الجديد بقوله: "إنَّ الحكومات الإسرائيلية توقفت عن الانتصار، وقد رأيت ذلك منذ حرب لبنان الثانية". وأضاف مُعللاً ذلك: "ما يُقلقني ليس العدو، بل أمر غير جيد يحصل لنا في الداخل".
الأمر غير الجيد الذي يحصل داخل الكيان الصهيوني، بحسب تعبير نفتالي بينيت، وضّحه الشاعر الإسرائيلي (ناتان زاخ) بقوله: "إنَّ الصهيونية فشلت في تحقيق مُرادها، وإنَّ دولة الحليب والعسل التي وعدت بها تحوّلت إلى كومة شر وفساد". وكذلك المفكر السياسي الإسرائيلي (أمنون روبنشتاين) بقوله: "إنَّ الكيان الإسرائيلي لا يمكنه البقاء مطلقاً بسبب نوعين من التهديد: خارجي... وداخلي يتمثل في الفساد وتآكل منظومة القيم الصهيونية".
إلى ذلك أضاف المؤرخ الإسرائيلي (بيني موريس) مُنذراً قومه: "الدولة اليهودية لا يمكن أن تدوم، وستزول في غضون ثلاثين إلى خمسين عاماً". أما رئيس الكنيست ورئيس الوكالة اليهودية في فترات سابقة (أبراهام بورغ)، فقد تحدّث مُعبّراً عن حتمية سقوط المسّادا الكبرى "إسرائيل فيتو صهيوني يحمل أسباب زواله في ذاته".
وختم عبد الوهاب المسيري، صاحب موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية"، توقعات سقوط المسّادا الكبرى بتأكيده أنَّ "إسرائيل" تتفكّك من الداخل بسبب تناقضاتها الداخلية وتآكل قيمها الصهيونية، وعدم يقين سكانها بمستقبلهم، وفشلهم في تهجير كل الفلسطينيين... ودور المقاومة في تعجيل نهاية "إسرائيل"، التي اعتبرها "جرثومة النهاية لدولة إسرائيل"، وهذا هو الأمر الجيد الذي يحصل لنا، وسيؤدي في نهاية المطاف إلى عدم تحقيق قسَم الجنود الصهاينة وجورج بوش المتعلّق بالمسّادا ، وفي المقابل تحقيق وعد الآخرة وجوهره (مسّادا ستسقط ثانية).