في العاشر من كانون أول/ديسمبر عام 1993 قرر المجلس المركزي الفلسطيني تشكيل السلطة الفلسطينية المؤقتة، وفقاً لاتفاقيات أوسلو الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة الكيان الصهيوني في الثالث عشر من شهر أيلول/سبتمبر عام 1993، وما كان يعلم وأعضاء المجلس الوطني الفلسطيني أنها عما قريب ستشطبهم وستصادر صلاحياتهم وستحل مكانهم.
وكان قد سمى في الجلسة نفسها ياسر عرفات رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير رئيساً للسلطة الفلسطينية المؤقتة، إلى حين انتهاء المرحلة الانتقالية التي نصت عليها اتفاقية أوسلو وحددتها بخمس سنواتٍ، وصولاً إلى المرحلة النهائية من المفاوضات، التي ظن الطرف الفلسطيني المفاوض أنها ستفضي إلى دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلةٍ، وستحل معضلات الحدود والقدس والسيادة واللاجئين، وغيرها من قضايا الحل النهائي التي تم إرجاؤها بخبثٍ إلى المرحلة النهائية.
لكن شيئاً لم يتحقق مما توقعه المفاوضون الفلسطينيون، ومما التزم به الإسرائيليون ووقعوا عليه، فقد مضى على الاتفاق المشؤوم قرابة ثلاثين سنة، وساءت الأوضاع أكثر مما كانت عليه قبل توقيع الاتفاقية، وتعقدت المسائل العالقة أكثر، وتنكر الإسرائيليون لالتزاماتهم، بل قاموا باستغلال المرحلة في تنفيذ مخططاتهم القديمة والجديدة، فتوسعوا في الاستيطان، وأمعنوا في قضم المزيد من الأراضي ومصادرة الحقوق، وضاعفوا جهودهم في التوسع والبناء، وكثفوا مساعيهم لتهويد مدينة القدس والسيطرة على المسجد الأقصى المبارك والمقدسات الدينية المسيحية والإسلامية في المدينة، وسعروا أوار الحرب الدينية والقومية مع الفلسطينيين.
كان ينبغي على القيادة الفلسطينية وقد رأت نتيجة رهانها ومآل نهجها أن تستعيد زمام المبادرة، وأن تقلب للعدو ظهر المجن، وأن تتنكر مثله لما التزمت به تجاهه، وأن تعود عما اعترفت به، فقد غدر بها وخدعها، وتآمر عليها وأضعفها، وأحبط مشاريعها وأفشل مخططاتها، وأساء استخدامها وأضر كثيراً بالمشروع الوطني الفلسطيني، وقد كان لديها وما زال كل المبررات والمسوغات لأن تنكث الاتفاق، وتعود عن الاعتراف، وتتمسك بالحقوق والثوابت، وتصر على المقاومة والنضال حتى تتحقق أهداف الشعب الفلسطيني وطموحاته، وهي أهدافٌ مشروعةٌ وغاياتٌ نبيلة، يقر بها المجتمع الدولي ولا يعترض عليها، وتؤيدها أغلبيته وتدعو إلى تحقيقها والتوقف عن إنكارها والجحود بها.
إلا أن القيادة الفلسطينية أعمت عيونها عن كل العيوب التي تحيط بها، ومضت سادرة في مشروعها الذي لا نهاية له ولا هدف وطني يحققه، وأصرت على مواصلة مسيرة المفاوضات العبثية، والتنازلات المجانية، والالتزامات المهينة الذليلة، وأعلنت للقاصي والداني أنها ستواصل نهجها "السلمي"، وكررت استنكارها لكل عملٍ مقاومٍ، وعارضت كل أشكال المقاومة الشعبية الفلسطينية، واعتبرت القائمين عليها والمؤمنين بها خارجين على القانون، وسجنتهم وعاقبتهم، وعذبتهم وضيقت عليهم، وحرمتهم من حقوقهم وامتيازاتهم، إلا أن يخضعوا لسياستها، ويؤمنوا بمشروعها، ويسلموا بقيادتها.
كل خطوات القيادة الفلسطينية وإجراءاتها، وكافة سياساتها ومشاريعها، تتنكب للمشاريع الوطنية، ولا تتوخى المصالح الشعبية، ولا تسعى للتقريب بين وجهات نظر شعبها وفصائله، وهي تتعمد تكريس الشرخ وتعميق الخلاف وإدامة الانقسام، وكأنه يعينها أن يدوم التشرذم الفلسطيني والتيه الوطني، ولا تتحقق المصالح ولا تجتمع الكلمة، ولا يلتئم الصف أو تتوحد الإرادة، فقامت بإصرارٍ وعنادٍ، بكل ما من شأنه تعقيد الوفاق الفلسطيني وتصحيح المسار الوطني، وكأنه مطلوبٌ منها هذا الدور وملزمة به، وإن كنت أظن وغيري كثير، أنها مقتنعة بما تقوم به، وواعية جداً لما ترتكبه من أخطاء، وهي راضية عن أدائها ومؤمنةٌ به، ولو أنه يخدم عدوها ولا ينفع شعبها، ويضر بالوطن ويهدد مستقبل القضية.
بالأمس القريب قام المجلس المركزي الفلسطيني بملء الفراغات الوظيفية، وتسمية ممثلي القوى والفصائل لشغل المناصب الرئيسة في منظمة التحرير الفلسطينية، سواء في مجلسها الوطني أو لجنتها التنفيذية، وقد كانت الأهواء الشخصية والولاءات السياسية هي ضابط القيادة الفلسطينية المتنفذة، ولم يكن لديها أي معيارٍ وطني في انتقاء الأشخاص وتسمية المسؤولين، بل إنها تعمدت غياب البعض، وعبدت الطرق أمام اعتذارهم واستنكافهم، واستعجلت الخطى لتقطع الطريق عليهم، واعترضت كل المساعي الوطنية والعربية لجمع الأطراف وتوحيد كلمتهم، ووأدت بقراراتها الأخيرة كل مسعى وأجهضت كل مبادرةٍ.
لكن القرار الأخير الذي أصدره رئيس السلطة الفلسطينية كان غريباً للأطوار ومخالفاً لكل الأعراف، وكأنه أراد به قبل رحيله أن يقزم القضية الفلسطينية ويضع نهايةً مأساويةً لها، إذ جعل رئاسة الدولة الفلسطينية، التي هي رئاسة السلطة الفلسطينية، مرجعاً لكل الهيئات الفلسطينية، فكانت منظمة التحرير الفلسطينية والمجلسين الوطني والمركزي وغيرهما، تابعين للرئاسة الفلسطينية، وملتزمين بسياستها وخاضعين لإرادتها، والكل يعلم أن السلطة الفلسطينية ورئيسها، والذي هو رئيس الدولة الفلسطينية الافتراضية، خرجا من رحم منظمة التحرير الفلسطينية، وتشكلا بموجب قرارٍ صادرٍ عن هيئاتها الشرعية.
اليوم وبهذا القرار الباطل حكماً والفاسد عقلاً، قد ارتكب الرئيس الفلسطيني جرماً جديداً بحق الشعب الفلسطيني وأجياله، إذ أتبع الأصل الشامل للفرع المحدود، وألحق منظمة التحرير الفلسطينية التي هي الإطار الوطني الجامع للسلطة الفلسطينية المحدودة، المشكوك في هويتها، والمطعون في وظيفتها، والمتهمة في انتمائها وولائها، والخاضعة في كثيرٍ من سياساتها للعدو الإسرائيلي والولايات المتحدة الأمريكية المؤيدة له، والكل يعلم أن السلطة الفلسطينية بموجب الاتفاقيات المؤقتة والنهائية، محدودة الأفق، ومحصورة الصلاحيات، ولا مكان فيها لشتات الشعب الفلسطيني وحق عودته، فضلاً عن سيادة دولته وحقها في الوجود والاستقلال.
أمام هذا السقوط المتواصل، والانحدار الشديد، في ظل هذا المنعطف الحرج، الذي قد يفضي إلى تسليم القيادة المريضة إلى قيادةٍ أشد مرضاً، ويعهد بالقضية الفلسطينية من نهجٍ أعوجٍ إلى نهجٍ أكثر اعوجاجاً، ويسلم القيادة ويمنح الراية لرموزٍ لا يخفون ارتهانهم، ولا يسترون عوراتهم، ويعلنون صباح مساء أنهم مع الوفاء بما التزمت به قيادتهم، والتقيد بما نصت عليه معاهداتهم، ينبغي أمام هذه الانزلاق الخطير والتردي المخيف، من خطوةٍ وطنيةٍ مسؤولية، يشترك فيها الشعب وكل قواه الوطنية، بوضوحٍ وشفافية، وصلابةٍ وإرادةٍ، لاستعادة القيادة، ونزع الشرعية ممن اغتصبها عمداً وانحرف بها قصداً، وإلا فإن الخسارة القادمة أكبر، وعمر المرشحين الجدد للخيانة والتفريط مديدٌ وأطولُ، محجم التنازلات المرجوة أكثر وأخطر.