المرأة الفلسطينية كالمرأة العربية في الواقع الإسلامي ظُلمت بين تيارين متناقضين: الأول مستورد من الثقافة الأوروبية الغربية، يذهب باتجاه تحرير المرأة وفق نموذج الحضارة الغربية المعاصرة بنزعته العلمانية المتطرفة، هذا التيار يريد تحرير المرأة العربية المسلمة من الإسلام والفطرة، ويتبنى ثقافة أنَّ المرأة مُباحة كلها حتى أنوثتها وكرامتها، فتوأد حية فوق التراب والغُبار، ولكنه تُراب الحضارة وغُبار المدنية. والثاني مستورد من عصر الانحطاط العربي، وأُعيد إنتاجه في صحراء نجد القاحلة، يذهب باتجاه تقييد المرأة وفق النموذج الصحراوي المتطرف، بعد إلباسه الثوب الإسلامي المتعصب، هذا التيار يريد تقييد المرأة العربية بالإسلام والشرع، وتبني ثقافة أنَّ المرأة عورة كلها حتى اسمها وصوتها، فتوأد حية فوق التراب والركام، تراب الجاهلية الغابرة ورُكام التراث المُزوّر.
المرأة الفلسطينية كالمرأة العربية في المأمول أنْ تعيش برؤية النموذج الإسلامي الوسطي الحضاري بعيداً عن التطرفين الغربي والصحراوي، الذي يهدف إلى تحرير المرأة بالإسلام وليس من الإسلام، ويسعى لعتق المرأة من الظلم وليس من الفطرة، وينطلق من مساواة الإسلام بين المرأة والرجل في الخَلْق والإنسانية والكرامة والتكليف والجزاء، مع التميز في الأنوثة والذكورة حفظاً لتميز وتكامل النوع والفطرة في إطار التكامل وليس التناقض، لتحقيق سعادة الإنسان على الأرض.
المأمول وفق النموذج الإسلامي الحضاري للمرأة الفلسطينية وضحه الشهيد المفكر فتحي الشقاقي في مقاله ( المرأة المسلمة: تيار جديد.. ومهام جديدة)، ذكر فيه رؤيته للمرأة، دعا فيه إلى تحرير المرأة من قيم الجاهلية التي تُعبّر عن ثقافة الانحطاط العربي والإسلامي ومفاهيم الغرب التي تعبر عن الثقافة الغربية المستوردة، وشرح رؤيته للمساواة بين الرجل والمرأة في إطار ضوابط الشرع والفطرة، التي تحفظ للمرأة أنوثتها وكرامتها، وأكد على دور المرأة في الثورة والعمل الوطني، والفعالية الاجتماعية والمشاركة السياسية، واعتبر أن حجاب المرأة الإسلامي اضافة إلى أنه التزام ديني فهو رمز حضاري وهوية ثقافية ومقاومة للاحتلال والاستلاب.
المرأة الفلسطينية في الواقع الوطني ظُلمت من الاحتلال الصهيوني لفلسطين كما الرجل، فتقاسمت معه العذاب والمعاناة والألم، وشاركته القتل والسجن والتهجير... ولكنها انفردت وحدها في تعرضها للظلم الاجتماعي من الرجل: أباً وأخاً وزوجاً ومديراً، فمنهنَّ من صادر أبوها حقها في اختيار الزوج، ومنهنَّ من استولى أخوها على حقها في الميراث، ومنهنَّ من حرمها زوجها من حقها في العمل، ومنهنَّ من أكل مديرها حقها في الأجر... وحتى حقها في كتابة اسمها في بطاقات الأفراح... حُرمت منه أحياناً كإمعانٍ في إنتهاك حقها كذاتٍ مستقلة لها اسم وشخصية وكيان.
والمرأة الفلسطينية في المأمول وفق النموذج الحضاري في إطاره الوطني يرى في المرأة الفلسطينية مُبدعة في مختلف المجالات: العلمية والمهنية والنضالية، فهي الأكاديمية والباحثة والعالمة، وهي المهنية والعاملة والمديرة، وهي المناضلة والشهيدة والجريحة والأسيرة، وهي أم وأخت وبنت الشهيد والجريح والأسير.
والنموذج الحضاري الوطني للمرأة الفلسطينية يؤكد على تعزيز الدور النضالي للمرأة، ورفع مستوى مشاركتها في المقاومة ضد الاحتلال والظلم، وزيادة درجة مساهمتها في العمل الاجتماعي والوطني والإسلامي، وتحقيق كرامتها ومكانتها في المجتمع، كركيزة أساسية تمد مشروع المقاومة والتحرير بأسباب القوة والاستمرار.
هذا النموذج وتلك الرؤية تدل على أهمية البُعد النضالي للمرأة، من خلال الربط بين تعزيز الدور النضالي والاجتماعي للمرأة ومشاركتها في المقاومة والعمل الوطني، وبين تقدم مشروع المقاومة والتحرير، ومن خلال التأكيد على أهمية أخذ المرأة لحقوقها المشروعة، وتحقيق كرامتها الإنسانية وتعزيز مكانتها الاجتماعية... لإنجاز مشروع التحرير والعودة والاستقلال، في علاقة جدلية تربط بين التحرر الاجتماعي والتحرر الوطني.
وانسجاماً مع رؤية النموذج الإسلامي الوسطي الحضاري من الضروري تغيير فلسفة المطالبة بحقوق المرأة، بالانتقال من مفهوم تسوّل المرأة لحقوقها من مجتمعها إلى مفهوم تمكين المرأة لتنتزع حقوقها بنفسها بكدحها ونضالها، وأول مراحل تمكين المرأة هو أنَّ تغيّر المرأة ما بنفسها لتغيير مكانتها في المجتمع، وتغيير ما بنفسها يبدأ باكتساب مفهوم إيجابي لذاتها وتصوّر حَسنْ لنفسها، وإيمان راسخ بقدراتها، وثقة كبيرة بإمكانياتها، وتصميم صلب على تحقيق أهدافها... هذا هو جوهر التمكين الذي يبدأ من الذات، وينطلق من النفس فيدفع المرأة للنهوض وكسر حاجز الخوف والخروج من دائرة الصمت، حتى تترسخ حقيقة أنَّ صوت المرأة ثورة عندما تطالب بحقوقها الطبيعية والشرعية والقانونية، وكذلك حقوق شعبها ووطنها، وإذا لم تفعل ذلك وسكتت عن حقوقها وحقوق شعبها، فحينئذٍ يكون صمت المرأة عورة.