معاناة الهجرة واللجوء واحدة عند الناس، لا فرق بينهم في ذلك مهما اختلفت ألوانهم وأعراقهم وأديانهم، ولكنَّ الغرب لديه رأي مختلف لا يرى الناس في معاناة الهجرة سواسية كأسنان المشط، ولا يرى أنَّ ذوي العيون الزرق والسود سيّان في مقاساة اللجوء، فيصنّفهم درجات في المعاناة والمقاساة بمعايير ترتبط بألوان بشرتهم وعيونهم، وأنواع أعراقهم وأصولهم، واختلاف أديانهم ومذاهبهم. وهذا التمييز العنصري ظهر جليّاً في أحداث الحرب الروسية – الأوكرانية، وما أنتجته من كارثة الهجرة واللجوء الإنسانية للشعب الأوكراني، فبدت العنصرية من أفواههم في تصريحات السياسيين وتقارير الصحافيين، وفي ممارسات موظفي الحدود، وما تُخفي صدورهم أكبر. فأدركنا من خلال أقوالهم وأفعالهم أن ليس كل اللاجئين سواء، فهل يستوي أصحاب البشرة البيضاء مع أصحاب البشرة السوداء؟!، وشتّان بين ذوي العيون الزرق وغير الزرق!
التمييز العنصري الغربي بالقول والفعل، كما طفا على السطح عقب مأساة اللاجئين الأوكرانيين على الحدود، ليس طارئاً أو استثناءً في الغرب، فهو ضاربٌ بجذوره في عمق التاريخ الأوروبي منذ بدايته، ومنسجمٌ مع سياق الحضارة الغربية منذ نشأتها، بما حملته من فكرة تفوّق العرق الأوروبي وسموّ الحضارة الغربية، وتعود هذه الجذور إلى الحضارتين اليونانية والرومانية - مهد الحضارة الأوروبية - فالحضارة اليونانية ترى في نفسها الحضارة الوحيدة في العالم، وغيرها من الحضارات البشرية الأُخرى مجرد مجتمعات بشرية بدائية وهمجية لا ترقى إلى مستوى الحضارة، وهذا واضح من الفلسفة اليونانية؛ فهذا أرسطو – المعلم الأول – يشرّع لليونانيين استعباد غيرهم كأمر طبيعي لافتقار غير اليونانيين إلى التفكير العقلاني، ولذلك أقام أفلاطون (المدينة الفاضلة) على أساس التمييز العنصري، وشكر الآلهة لأنها خلقته يونانياً ولم تخلقه بربرياً. وورثت الحضارة الرومانية بمرحلتيها الوثنية والمسيحية تراث الحضارة اليونانية العنصري، فاعتبرت ما دونها بدائيّاً متوحشّاً.
الحضارتان اليونانية والرومانية هما أصل الحضارة الغربية الأوروبية الحديثة، عندما أُعيد إنتاجها مع بدء الثورة العلمية والصناعية والتوسع الاستعماري، بعدما تجاوزت بحر الظلمات في القرون الوسطى، فحملت معها فكرة التفوّق العرقي والحضاري بصبغتها الاستعمارية والصليبية، وبأهدافها السياسية والاقتصادية، وكانت الفلسفة حاضرة دائماً للتأصيل والتبرير والتنظير، فجاءت فلسفة جورج هيغل مؤصّلة للتمييز العنصري، لتأكيد سموّ الجنس الأبيض الأوروبي المتحضّر، وانحطاط الأجناس الأُخرى غير الأوروبية، كالزنوج والهنود والصينيين والعرب. وجاءت فلسفة ديفيد هيوم مُبرّرة للتمييز العنصري، باعتبار أنَّ الأفارقة والآسيويين، بالفطرة، هم أدنى منزلةً من مستوى الإنسان الأوروبي الأبيض في القدرات العقلية. وجاءت فلسفة عمانويل كانط مُنظّرة للتمييز العنصري لإثبات أن أصحاب البشرة البيضاء هم أكثر الأنواع البشرية ذكاءً وفاعلية وقدرة على بناء الحضارات، وكان العلم الموجَّه بعقولٍ أُشرِبت فكرة التفوّق حاضراً أيضاً لتركيب نظريات عنصرية، ومنها: الانتخاب الطبيعي لتشارلز داروين، والبقاء للأصلح لهربرت سبنسر، والبقاء للأقوى لفريدريك نيتشه، والبقاء للأغنى لآدم سميث.
الفكر العنصري الأوروبي تجاه غير الأوروبيين تناوله الروائي البريطاني من أصل بولندي جوزيف كونراد في روايته (قلب الظلام) عام 1902م، والرواية تتحدث عن الاستعمار الأوروبي لأفريقيا جنوب الصحراء، من خلال نموذج الاستعمار البلجيكي للكونغو، من وجهة نظر الرواية الأوروبية للاستعمار؛ فقلب الظلام هو وسط أفريقيا، كرمز لكل الأماكن خارج أوروبا، فهي مُظلمة لمجرد كونها خارج أوروبا، وشعوبها تعيش في الظلمات لمجرد كونها من غير الأوروبيين، فالأماكن والشعوب خارج أوروبا تحتاج إلى النور ليُضيء ظلماتها، وهذا النور لا يوجد إلّا في الغرب الأوروبي فقط بما يملك من تفوّق ثقافي ومعرفي، فجاء الاستعمار – كما يدل اسمه - من أجل تعمير الأرض وتنوير الشعب.
رواية (قلب الظلام) عبّرت عن مرحلة الاستعمار الأوروبي التقليدي المباشر الذي رافق عصر النهضة والتنوير، وتواصل حتى بداية النصف الثاني من القرن العشرين، ولكن فكرة التفوّق الغربي التي نبتت في تربتها شجرة الاستعمار التقليدي، ظلّت تُعبّر عن نفسها بطرق أخرى بعد انكماش مرحلة الاستعمار التقليدي المباشر وانتهائها، وما رافقها من موجات هجرة جماعية وفردية من الدول الأفريقية والآسيوية المُستعمَرة، إلى القارة البيضاء، فبدأ من هنا التحريض العنصري ضد المهاجرين غير الأوروبيين بثوبه الجديد، التي بنى حولها الروائي الفرنسي جان راسبيل روايته (معسكر القديسين) عام 1973م، مُتخيّلاً غزواً أفريقياً وآسيوياً لأوروبا، ومُعبّراً عن مخاوف الأوروبيين من غزو البرابرة المتوّحشين لأوروبا وتغيير ثقافتها وهويتها، وهذه الرواية مهّدت لنظرية (الاستبدال العظيم).
تأثر الفيلسوف الفرنسي رونو كامي برواية (معسكر القديسين)، وحوّلها إلى نظرية عنصرية عُرفت باسم (الاستبدال العظيم)، نسبة إلى كتاب يحمل الاسم نفسه عام 2011م، ومضمونها أن السكان الفرنسيين وكل الأوروبيين المسيحيين البيض يجري استبدالهم بشكل منتظم بغير الأوروبيين من الأفارقة والآسيويين بواسطة الهجرة والولادة، ما يؤدي إلى نهاية الحضارة الأوروبية المتقدّمة، وإحلال حضارات مُتخلّفة مكانها. وهذه النظرية هي جوهر أيديولوجية النازيين الجدد، القائمة على الخوف من انقراض العرق الأوروبي السامي ذي البشرة البيضاء والعيون الزرق، والقلق من اندثار الحضارة الغربية العظيمة ذات الثقافة الراقية والتقنية المتقدمة، وهم يجمعون بين تطرفين: تطرف عام للعرق الأوروبي الأبيض ضد غير الأوروبيين وغير البيض، وتطرف خاص للقومية ضد كل القوميات الأخرى حتى داخل الدائرة الأوروبية، وهؤلاء هم النازيون الجُدد، المسؤولون عن التحريض على التمييز العنصري ضد اللاجئين غير الأوروبيين الفارّين من جحيم الحرب في أوكرانيا.
بهذه القراءة لبذرة التفوّق العرقي والحضاري الغربية، التي ضربت جذورها في أرض يونانية ورومانية سبخة، فأنبتت شجرة التمييز العنصري الخبيثة، بأغصانها الشوكية الممتدة إلى كل بلدان أوروبا ومستعمراتها البيض، فأنتجت ثمار العنصرية والنازية والفاشية، ووزعت فائض عنصريتها وكراهيتها وعنفها على العالم: دولاً عنصرية، وأنظمةً قمعية، وحروباً استعمارية، وصراعاتٍ دموية، واحتلالاتٍ إرهابية... لا أمل بأنْ تُغيّر حضارة الرجل الأبيض نفسها وتُبدّل جلدها، وكل الأمل بأن تعود الأمم، خارج هيمنة الحضارة الغربية وبيت الطاعة الأميركي، إلى ذاتها وتستثمر قدراتها وتُفجّر طاقاتها، كي تحقق نهضتها وتصنع حضارتها وتبني مستقبلها، فتحترم ذاتها وهويتها وثقافتها؛ ليحترمها الآخرون ممن يميّزون بين اللاجئين من ذوي العيون الزرق وغير الزرق.