حاول الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، من خلال المبالغة الزائدة في حفل استقبال الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، أن يرسل رسالة واضحة للإسرائيليين عن نيّاته الطيبة تجاه تعزيز العلاقات التركية الإسرائيلية، لكن من المؤكد أن إردوغان لم ينجح حتى الآن في إقناع الإسرائيليين بصدق نيّاته، على ضوء ما تملكه "إسرائيل" من مسيرة طويلة من التقلبات الحادة في العلاقة مع تركيا في فترة الرئيس إردوغان، وهذا ما عبّر عنه تصريح هرتسوغ أثناء الزيارة بقوله: "يتم الحكم على الأمور بالأفعال على الأرض، والاحترام المتبادل بين الطرفين"، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل عن كيفية النظرة الإسرائيلية إلى مستقبل العلاقة مع تركيا؟
يرتكز استشراف السلوك الإسرائيلي تجاه إردوغان على الكيفية التي قرأت بها الحكومة الإسرائيلية، بقيادة نفتالي بينيت، انفتاح إردوغان مجدداً على العلاقة مع "إسرائيل"، حيث هناك إجماع إسرائيلي على أن الإشكاليات الاقتصادية التركية المتفاقمة، التي تتمثل في انخفاض قيمة الليرة التركية، ونقص مخزون العملة الأجنبية في تركيا، زادت من أهمية العلاقات الاقتصادية التركية الإسرائيلية بالنسبة إلى الاقتصاد التركي، حيث وصل مجمل التبادل التجاري في عام 2021م إلى 6.7 مليارات دولار، بزيادة 35% عن سنة 2020م، والتي بلغ حجم التبادل التجاري فيها 4.9 مليارات دولار. ومن الجدير بالذكر أن الميزان التجاري بين البلدين يميل لصالح تركيا بنسبة الثلثين، لذلك كان من الطبيعي أنه في الوقت الذي يجري الإعداد فيه لزيارة هرتسوغ لتركيا، وصول وفد تركي مكوّن من مئة رجل أعمال للقاء كبار رجال الأعمال الإسرائيليين، والتوقيع معهم على عقود تجارية بين البلدين.
وإذا علمنا أن عدد السيّاح الإسرائيليين إلى تركيا وصل في عام 2019 إلى نصف مليون سائح، هذا العدد غير المسبوق حتى قبل حادثة سفينة مرمرة عام 2010م، إضافة إلى قضية التنقيب عن الغاز في منطقة شرق البحر المتوسط، الأمر الذي يزيد من أهمية العلاقات التجارية مع "إسرائيل" بالنسبة إلى الاقتصاد التركي، وخاصة أن العام المقبل، 2023م، عام انتخابات في تركيا، وبالتأكيد يبحث إردوغان عن أي وسيلة للخروج من أزماته الاقتصادية.
لكن من الواضح أن إردوغان أدرك أن هناك تغيّرات جيوسياسية تقودها "إسرائيل" برعاية أميركية في منطقة الشرق الأوسط، أبرزها (اتفاقات أبراهام) التطبيعية، والبدء بالعمل إسرائيلياً على تحويل تلك الاتفاقات إلى حلف عسكري في المنطقة، ما يعزّز المعسكر المعادي لتركيا على المستوى السياسي، على ضوء الموقف التركي الداعم لجماعة الإخوان المسلمين بعد أحداث ما سُمّي "الربيع العربي"، الأمر الذي يهدّد تركيا، ويزيد من عزلتها، وخاصة أن العلاقة الأميركية التركية في عهد الرئيس جو بايدن تحمل الكثير من السلبيات تجاه شخص إردوغان وسياسته، والذي فشلت كل محاولاته في كل الساحات التي تدخّل فيها، بدءاً من سوريا حتى ليبيا، وصولاً إلى حوض شرق البحر المتوسط، ومداخل البحر الأحمر، وبالتالي لم يتحقق الطموح التركي في تشكيل تحالف قوي في المنطقة تحت قيادتها، بل ازدادت المخاوف التركية من تشكّل حلف الغاز الذي يضم اليونان وقبرص ومصر و"إسرائيل"، والذي يؤسّس لمشاريع كبرى لنقل غاز شرق المتوسط إلى أوروبا، الأمر الذي يؤثّر سلباً على اقتصادات الطاقة التركية بشكل كبير، والأهم على دور تركيا كممر لنقل الطاقة إلى أوروبا.
حاولت تركيا استخدام المغازلة مع الروس من أجل كسر الجليد في العلاقة مع الأميركيين، ولكن أفشلت ذلك الأزمة الروسية الأوكرانية، التي زادت من حساسية حلف الناتو تجاه أي تقارب تركي روسي، الأمر الذي سيهدّد عضوية تركيا في حلف الناتو، وسيفرض عليها عزلة أوروبية وأميركية.
في المحصلة، وجد إردوغان نفسه معزولاً، في ظل تغيّرات جيوسياسية في المنطقة، ليست في مصلحة تركيا، ولم تستطع سياساته الخارجية الحالية التعامل معها، لذلك سعى إلى إيجاد نقطة التحول من خلال تعزيز العلاقة مع "إسرائيل"، بعيداً عن كل الشعارات الإردوغانية السابقة المتعلقة بالقضية الفلسطينية، ظناً منه أن "إسرائيل" ستكون له تأشيرة عودة إلى منطقة الشرق الأوسط، والأهم لدخول البيت الأبيض من جديد.
تدرك "إسرائيل" أهمية تعزيز العلاقات الإسرائيلية مع تركيا، لما تمثله الأخيرة من قيادة لمعسكر سياسي له امتدادات فكرية في المنطقة، الأمر الذي سيسهم، مع اتفاقات أبراهام التطبيعية، في أن تصبح "إسرائيل" رمانة الميزان ونقطة الالتقاء بين المعسكر التركي وامتداداته من جهة، ومعسكر دول التطبيع العربي بقيادة الإمارات والسعودية من جهة أخرى، الأمر الذي سيزيد من حالة التطبيع في المنطقة والعالم الإسلامي مع "إسرائيل"، ويسهل عليها توحيد تلك المعسكرات تحت قيادتها في مواجهة محور المقاومة في المنطقة بقيادة إيران.
رغم ذلك، ما زال الموقف الإسرائيلي متردّداً، وحذراً جداً وغير متعجّل بالمطلق الانفتاح على العلاقة مع تركيا إردوغان، ويحمل الكثير من الاشتراطات والشكوك، خاصة في السنة الأخيرة قبل الانتخابات التركية، التي بالتأكيد ستكون "إسرائيل" حريصة كل الحرص على أن لا تمنح إردوغان هدايا انتخابية مجانية.
من أهم المؤشرات التي تؤكد الحرص والحذر الإسرائيليّين تجاه انفتاح العلاقة مع إردوغان:
أولاً، جاءت زيارة هرتسوغ لتركيا بعد التنسيق الكامل بين "إسرائيل" وحلفائها في المنطقة العربية، وفي مقدمتهم مصر والإمارات، ولم تقدم "إسرائيل" على تلك الزيارة إلا بعد حدوث انفراجات في العلاقة بينهما وبين تركيا، كلّ على حدة، إضافة إلى أن "إسرائيل" كانت حريصة على إيصال رسائل طمأنة إلى كل من اليونان وقبرص بأن الزيارة لتركيا لن تكون على حساب التحالف بينهم، وبالتالي قطعت "إسرائيل" الطريق على أيّ محاولة تركية للّعب على اهتزاز الثقة بين "إسرائيل" وحلفائها في المنطقة، من خلال حفاوة الاستقبال التركي الزائدة للرئيس الإسرائيلي.
ثانياً، فضّلت "إسرائيل" منح نفسها مساحة أكبر من اختبار صدق النيّات التركية، فحرصت على أن تبقى القناة الرسمية بينها وبين تركيا هي الرئيس الإسرائيلي لا رئيس الوزراء، ولا حتى وزير الخارجية. ومن الجدير بالذكر أن النظام السياسي الإسرائيلي يمنح السلطة التنفيذية للحكومة ورئيس وزرائها، ويبقى منصب رئيس الدولة تشريفياً بروتوكولياً، وغير ملزم للحكومة.
ثالثاً، تركّزت الزيارة على الخطوط العامة للعلاقة بين البلدين. ورغم الحديث عن المخاوف الإسرائيلية من وجود قادة من حركة حماس على الأراضي التركية، ولكنّ القرار المركزي الوحيد الناتج عن تلك الزيارة هو تشكيل لجنة مشتركة مسؤولة عن حل الخلافات، والتعاطي مع الأزمات المستقبلية بين البلدين، في الملف الفلسطيني أو أيّ ملف آخر.