تواصل "دولة" الاحتلال استراتيجية نزع إرث الحركة الأسيرة الفلسطينية، مستغلةً انشغال العالم والإقليم بعدد من الملفات الساخنة، وفي مقدمتها الحرب الروسية الأوكرانية، وخصوصاً بعد أن استطاعت الحركة الأسيرة، في الأشهر الماضية، تحقيق سلسلة من الإنجازات في مواجهة المنظومة الأمنية الإسرائيلية، بدءاً بعملية نفق جلبوع التي مرَّغت كبرياء الأمن الإسرائيلي في التراب، مروراً بالنجاحات التي سطَّرتها معارك الإضرابات الفردية، والتي تُوِّجَت بالانتصار الأسطوري للأسير هشام أبو هواش بعد 141 يوماً من الإضراب المفتوح عن الطعام، وليس انتهاءً باستمرار الأسرى الإداريين في خطوتهم الجماعية، والمتمثّلة بمقاطعة المحاكم العسكرية الإسرائيلية، التي تصادق على اعتقالهم من دون أيّ تهمة أو تقديم لائحة اتهام ضدهم.
في حقيقة الأمر، تدور الآن معركة شرسة بعيدة عن أعين العالم بين الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال وبين "إسرائيل" الفاشية، بكل ما تحمله منظوماتها الأمنية من حقد وثأر نابعَين من أبعاد سياسية وأمنية، وحتى دينية توراتية، على الأسرى الفلسطينيين.
وليس بيان الحركة الأسيرة، إلاّ إعلاناً صريحاً من الأسرى الفلسطينيين أنهم يطلبون المساندة والدعم من محور المقاومة بكامله، وهم ذاهبون إلى مواجهة كبرى مع مصلحة السجون الإسرائيلية، ومِن خلفها "دولة" الاحتلال برمتها، فإعلان موعد البدء في الإضراب المفتوح عن الطعام، في هذا التوقيت الحسّاس، ونحن على مشارف شهر رمضان المبارك، رسالة واضحة وصريحة، مفادها أن التغول الإسرائيلي تجاه الأسرى الفلسطينيين وصل إلى مستويات يتساوى فيها الموت والحياة عند الأسير الفلسطيني.
ليس من المبالغة أن نعترف بأن هناك حقداً دفيناً من جانب "إسرائيل" تجاه الأسرى الفلسطينيين. وينبع هذا الحقد الإسرائيلي من عدة أسباب، تتوزع على مستويات متعددة، أهمها:
أولاً، تتشكّل شريحة الأسرى من أفراد من الشعب الفلسطيني سجّلت لنفسها فضل السبق في حمل راية المقاومة والنضال ضد الاحتلال الصهيوني، في أثناء الأَسر وقبله. فهي قبل الاعتقال أذاقت جيش الاحتلال الإسرائيلي، في كثير من المعارك، مرارةَ الهزيمة، وأجبر أبطالها المستوطن الصهيوني، من خلال عملياتهم الفدائية، على أن يدرك أن وجوده في أرض فلسطيني موقّت. وبالتالي، تعدّ العقلية الصهيونية، التي تمّت صياغتها من خلال الفتاوى التلمودية المتطرفة، أن مصير شريحة الأسرى، وخصوصاً الأسرى ذوي الأحكام بالمؤبّد، يجب أن يكون الإعدام؛ ذلك الحكم الذي ألغته القوانين الإسرائيلية نتيجة دوافع إعلامية تتعلق بتسويق ديموقراطية زائفة لكيانها أمام المجتمع الدولي، لكنّها تنفّذ الإعدامات بأساليب وطرائق أخرى ضد الفدائيين الفلسطينيين، وآخرها سياسة التساهل في إطلاق النار من جانب جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين، والتي هي عبارة عن أحكام إعدام ميدانية بحق الشبّان الفلسطينيّين لمجرد الاشتباه فيهم عند حواجز جيش الاحتلال.
وبذلك، يسعى جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى تقليل أعداد الأسرى الفلسطينيين، الذين إن نَجَوْا من سياسة الإعدامات الميدانية قبل الأَسر، فسيواجهون سلسلة طويلة من السياسات العنصرية والفاشية، والتي تمارسها ضدهم مصلحة السجون الإسرائيلية، والهادفة إلى تنفيذ القتل البطيء للأسرى، من خلال عدم توفير الظروف المعيشية الصحية، والمطلوب منها زرع الأمراض المزمنة في أجساد الأسرى، وعندها تُمارَس ضدهم سياسةُ الإهمال الطبي المتعمَّد، كحكم إعدام حقيقي، لكن بطيء، داخل ما يسمى مستشفى سجن الرملة الصهيوني، والمتعارف على تسميته لدى الأسرى الفلسطينيين: "مقبرة الأحياء".
ثانياً، تُعَدّ شريحة الأسرى الأكثر جرأة وإقداماً على مواجهة "دولة" الاحتلال الإسرائيلي، على الرغم مما يرافق ذلك من تضحية وفداء. لذا، يمثّل الأسرى نموذج المقاومة الذي تتطلع الأجيال الشابة من الشعب الفلسطيني إلى الاقتداء به، والسير في دربه ونهجه، الأمر الذي يُقلق مضاجع أمن الاحتلال الإسرائيلي، ناهيك بأن الأسرى تم اعتقالهم، أساساً، لأنهم أثبتوا فشل نظرية الجدار الحديدي من خلال عملياتهم الفدائية؛ تلك النظرية الذي روّجت أنه لا يمكن تحقيق النصر على "إسرائيل" في ساحات المواجهة والقتال، والتي أسست عليها "إسرائيل" عقيدتها العسكرية، فبات الأسرى الشاهد الحيَّ على كذب أسطورة "الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر" أمام الجميع. لذا، تسعى "إسرائيل"، في كل منظوماتها الأمنية، لتغييب هذا الشاهد.
ثالثاً، الإحصاءات الأمنية الإسرائيلية تؤكد أن أكثر من تسعين في المئة من الأسرى الفلسطينيين يعودون إلى ممارسة الفعل المقاوم بعد خروجهم من الأسر. وعلى الرغم من كل محاولات منظومات الأمن الإسرائيلية كَسْرَ إرادة الأسرى الفلسطينيين في أثناء فترة الأَسر، من خلال محاولة عمليات غسل الأدمغة للأسرى، كي يتحوّل الأسير إلى شخص عدميّ مسلوب الإرادة، فاقد للأمل، ناقم على مبادئه الوطنية التي آمن بها قبل الأسر. وبالتالي، يفقد الأسير العوامل التي تمكّنه من ممارسة أي دور نضالي مستقبلي، ويتم تحويله إلى نموذج لا أحد يريد أن يلقى مصيره. ويصبح الأسرى جزءاً فعالاً من معركة كيّ الوعي الإسرائيلية ضد الأجيال الفلسطينية المقبلة تجاه فكرة المقاومة.
وهنا، تبرز أهمية الحركة الأسيرة ودور نضالاتها المتراكمة داخل قلاع الأَسر، والتي استطاعت حماية الأسرى من كل مخططات تفريغ الذات، وطنياً وإنسانياً، والتي تَحُوكها الأجهزة الأمنية الصهيونية ضد الأسرى، بل نجحت الحركة الأسيرة، من خلال مراكمة إنجازاتها على مدى تاريخها، إلى تحويل السجن والاعتقال إلى فرصة في إعادة صياغة الشخصية النضالية للأسير الفلسطيني وصقلها من جديد، من خلال عدد من البرامج التربوية والثقافية والسياسية، والتي تراعي الظروف النفسية والضغوط الحياتية التي يعانيها الأسير داخل الاعتقال. وبالتالي، تضيف تلك البرامج إلى تجربته النضالية السابقة أبعاداً جديدة تساعده على الصمود أكثر في وجه تهديدات السجن والسجّان من جهة، وتساهم، من جهة أخرى، في استمراريته في الحالة النضالية الفلسطينية بعد انتهاء فترة الأسر. وعندها، ينتصر الأسير الفلسطيني في معركة الوعي والمحافظة على الذات في وجه كل المؤامرات الإسرائيلية الإحلالية لكل ما هو مقاوم في العقل الفردي والعقل الجمعي للأسرى الفلسطينيين.