بدا غريباً جداً قيام حكومة الكيان الصهيوني بمحاولة الوساطة بين روسيا وأوكرانيا، وسعيها لإطفاء نار الحرب المحتدمة بينهما، ووقف جميع العمليات العسكرية بكافة أشكالها، وجمع ممثليهما وعقد لقاءٍ مباشرٍ بين رئيسيهما، للحوار والتفاوض حول أفضل السبل وأسرعها للخروج من الأزمة، وتجاوز المحنة التي قد تكون أوسع وأشد، وقد نافست الحكومة الإسرائيلية، لسببٍ معروفٍ وغايةٍ غير مجهولةٍ، الدولَ الكبرى على هذا الدور الحساس والمهمة الاستراتيجية، واستطاعت أن تجد لنفسها مكانة ًكبيرةً وكلمةً مسموعةً ورأياً يُعْتَدُ به، يُقَدَرُ ويفرضُ.
جهة الغرابة في المساعي الإسرائيلية، التي يبدو أنها قُبلت واستمرت، ولاقت من الأطراف ترحاباً وتقديراً، أنها أظهرت الكيان الصهيوني وكأنه قد اتخذ موقفاً مغايراً لموقف الولايات المتحدة الأمريكية، ومخالفاً لرأي دول الناتو، الذين يرون أن روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين قد اعتدت على سيادة أوكرانيا، وأنه ينبغي مقاطعتها ومعاقبتها، وتوريطها ومحاسبتها، في الوقت الذي يجب فيه دعم القيادة الأوكرانية، ومساندة مقاومتها، ومدها بكل ما تحتاج إليه من أسلحةٍ ومعداتٍ، تمكنها من الصمود الثبات، ورد العدوان وإلحاق الهزيمة بروسيا، ولعلها لم تلقَ معارضةً من الإدارة الأمريكية على دورها ووساطتها وحسب، بل ربما نسقت معها دورها، وتكاملت معها جهودها.
الحقيقة التي لا ينبغي أن تغيب عن اذهاننا، أنه لا يوجد اختلاف في الموقف بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية والغرب تجاه الأزمة الأوكرانية، بل إن مصالح الكيان الصهيوني في أوكرانيا دولةً مستقلة وقوية أكثر بكثير من مصالح أمريكا والغرب، فقد أصبحت أوكرانيا التي يرأسها رئيسٌ يهودي، ورئيسُ حكومةٍ وأحد عشر وزيراً آخر يهودٌ، ساحةً هامةً للنفوذ والعمل الاقتصادي والأمني والعسكري، فقد نسج الكيان الصهيوني معها علاقاتٍ استراتيجية، وأنشأ فيها قواعد خاصة، ومدها بالخبراء والمدربين، وزودها بالتقنيات العالية والمسيرات المتطورة، وزودها بمضادات الصواريخ والطيران الحديثة، وأصبح يؤمها ويزورها سنوياً مئات آلاف الإسرائيليين، ومثلهم من الأوكرانيين، اليهود والمسيحيين، الذين دأبوا على زيارة الكيان الصهيوني، عملاً وسياحةً ودعارةً.
أتاحت الحكومة الإسرائيلية للرئيس الأوكراني فرصة إلقاء كلمةٍ أمام أعضاء الكنيست الإسرائيلي، وسهلت نقلها مباشرةً عبر وسائل الإعلام، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي وأدوات الإعلام الجديد، وأتاحت لسكان العالم فرصة الاستماع إليها، ولكن هذه الخطوة التي بدت محابية لأوكرانيا، حيث لم تخلُ كلمة الرئيس الأوكراني من اتهاماتٍ وإساءاتٍ لروسيا ورئيسها، وتحريضٍ عليها وطلبٍ من أمريكا ودول العالم دعم بلاده ومساعدتها، ومعاقبة روسيا وحصارها، إلا أنها لم تَحُلْ دون قيام رئيس حكومة الكيان الصهيوني نفتالي بينت بإجراء عدة اتصالات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، استغرق بعضها أكثر من ساعةٍ، ناقشا خلالها فرص التوصل إلى إنهاء الأزمة ووضع حلولٍ للمخاوف الأمنية الروسية.
بعيداً عن جهود الوساطة الإسرائيلية المعلنة، كانت هناك لقاءاتٌ رسميةٌ منظمةٌ بين مسؤولين إسرائيليين وآخرين روس، لتنسيق قواعد العمل المشترك في سوريا، وضبط احتمالات الاشتباك والتصادم فيها، فالكيان الصهيوني يريد من مسعاه أن تبقى يده طليقة في السماء والأرض السورية، يعبث فيها كيف يشاء، يقصف بحريةٍ أهدافاً سورية وغيرها، يقتل ويدمر ويخربُ دون أن يجد عقباتٍ أو معارضة روسية لغاراته، لعلمه التام أنه لن يستطيع ممارسة عدوانه في سوريا في حال قررت موسكو منعه، أو قامت بتفعيل مضادتها وتصدت لغاراته وأسقطت طائراته ودمرت في السماء صواريخه.
يبدو أن الحكومة الإسرائيلية أصبحت مضطرة عملياً ورسمياً للوقوف على الحياد في الحرب الروسية الأوكرانية، وقررت أن تمتنع عن انتقاد موسكو أو المشاركة في فرض عقوباتٍ عليها، حرصاً على مصالحها، وحفاظاً على حرية عملها العدواني، وتؤيدها في ذلك الإدارة الأمريكية وبريطانيا، وربما غيرهما من دول أوروبا، الذين غضوا الطرف عن السلوك الإسرائيلي وقبلوا بدورها ووساطتها وحيادها الشكلي، لتتمكن من تمرير سياستهم المشتركة في ضرب سوريا واستهداف جيشها ومقراتها ومقدراتها.
وعليه فقد نرى في الأيام القليلة القادمة نتائج هذه الوساطة، وحقيقة الثمن الذي تقاضاه الكيان الصهيوني نتيجةً لهذا الموقف أجراً لحياده المزعوم ووساطته الكاذبة، وفهماً حقيقياً للأسباب والدوافع التي جعلته يتخلى عن دولةٍ نصف قيادتها من اليهود، وكثير من شعبها منهم، وكل أرضها مستباحةً لهم وسوقاً لخبرائهم وحقلاً لتجاربهم، فهذا العدو لا يعطي إلا إذا أخذ، ولا يلتزم بالعهد إلا إذا استفاد، ولا يسعى بالخير بين الفرقاء إلا لمنافعه، ولا يصلح بين المتخاصمين إلا لتحقيق مآربه، فاحذروه إن تحرك، وشِكِّوا فيه إن سكن، وانتبهوا منه إن نطق أو صمت.