توجد محاولات محمومة من جانب المنظومة الأمنية للاحتلال الإسرائيلي، وفي مقدمتها جهاز الأمن العام الإسرائيلي، "الشاباك"، للتغطية على فشل تلك المنظومة المتتالي خلال الشهر الماضي، من خلال إعلان عملية عسكرية أمنية "كاسر الأمواج" في مناطق الضفة الغربية والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948م، من أجل إعادة الثقة بالمنظومةالأمنية للاحتلال الإسرائيلي، بعد فشلها في منع ثلاث عمليات فدائية في أقل من عشرة أيام، الأمر الذي زعزع ثقة الشارع الإسرائيلي بقدرة منظومته الأمنية على توفير "الشعور بالأمن"، بحيث أَبْرَزَ استطلاع للرأي، أجرته "القناة الـ13" الإسرائيلية، أن 4 بين كل 10 من اليهود يرون أنفسهم أنهم في ظروف صعبة ولا يشعرون بالأمن.
لذلك، وضعت المنظومة العسكرية والأمنية للاحتلال الإسرائيلي استعادة الشعور بالأمن لدى المستوطن في "إسرائيل" هدفاً مركزياً لها في هذه المرحلة، وهذا ما أوضحه تصريح وزير الأمن الإسرائيلي، بني غانتس، أن المؤسسة الأمنية - جيش الاحتلال الإسرائيلي و"الشاباك" والشرطة الإسرائيلية - ستوظف كل الوسائل المتاحة لها لإعادة الأمن إلى شوارع "إسرائيل" و"الشعور بالأمن إلى الجمهور".
وهنا، تجدر الإشارة إلى تعالي الأصوات الغاضبة في الشارع الإسرائيلي على كل من جهاز "الشاباك" و الشرطة الإسرائيلية على ضوء إخفاقاتهما المتكررة، الأمر الذي دفع وزير خارجية الاحتلال الإسرائيلي، يائير لابيد، إلى القول إن "الانتقادات لجهاز الشاباك غير صحيحة وغير عادلة، وتخلو من المسؤولية الوطنية".
وأضاف: "في العمل الاستخباري، لا يوجد ولا يمكن أن يكون نجاحاً بنسبة 100%". لكن، على الرغم من كل ذلك، فإنه بات يبرز سؤال مركزي لدى الإسرائيليين عن ماهية الأسباب الحقيقية التي تقف وراء فشل المنظومة الأمنية الإسرائيلية في مواجهة العمليات الفدائية، على الرغم من كل ما تملكه من إمكانات بشرية وتكنولوجية ومالية؟
يبذل الإعلام الإسرائيلي الموجَّه جهداً كبيراً في زيادة ثقة الشارع الإسرائيلي بالمنظومة الأمنية، من خلال تقديم تبريرات لهذا الفشل، والتقليل من حجم الإخفاق في منع العمليات الفدائية في الآونة الأخيرة. لكن الإعلام الإسرائيلي، ومن خلفه المستوى الرسمي، لم يعترفا بأن هناك خللاً بنيوياً وأخطاءً داخل المنظومة الأمنية الإسرائيلية، تقف وراء ذلك الفشل المتكرر، أهمها:
أولاً، عدم قدرة المنظومة الأمنية الإسرائيلية على فهم العقلية الفلسطينية بالصورة السليمة، وخصوصاً مع تنامي الفوقية الصهيونية، في شقَّيها العلماني والديني، الأمر الذي يؤدي إلى عدم استطاعتها استشراف السلوك الفلسطيني في المستقبل، الأمر الذي نعتقد أنه يرجع إلى عدة عوامل أبرزها:
1. النمطية العنصرية والفوقية الصهيونية، اللَّتان باتتا تسيطران على النظرة الإسرائيلية تجاه الفلسطيني، والمبنيتان على أن الفلسطيني غير قادر على الإبداع والتفكير خارج الصندوق، وأنه يكرّر الأخطاء نفسها، ولا يمكنه التفوق على العقل الصهيوني العبقري. وبالتالي، اكتفت أجهزة أمن الاحتلال الإسرائيلي بوضع بعض المعايير والمحددات، التي تمثل إشارات حمراء تجسّد إنذارات مبكرة بشأن نية العمل الفلسطيني المقاوم، مثل السلوك الفلسطيني في وسائل التواصل الاجتماعي، وازدياد الدافع إلى المقاومة في بعض المناسبات الدينية والوطنية، مثل شهر رمضان المبارك، ويوم الأرض الفلسطيني. وبالتالي، وقعت المنظومة الأمنية الإسرائيلية في فخ الترهل والغرور اللَّذَين كانا سبباً في عدم مواكبة التطورات الحادثة في السلوك الفلسطيني بالصورة الصحيحة.
2. قلة عدد العناصر والضباط الذين يُجيدون اللغة العربية داخل الأجهزة الأمنية للاحتلال الإسرائيلي. وتجدر الإشارة إلى أنتكلم اللغة العربية مغاير تماماً لفهم معانيها المتعددة والمتنوعة، بحسب اللهجات الفلسطينية المتعددة، الأمر الذي يجعل تحليل المعلومة الأمنية أكثر صعوبة، ويحتاج إلى وقت أطول، الأمر الذي يُفقد الأجهزة الأمنية الإسرائيلية القدرة على الاستفادة السريعة من المعلومات الأمنية، وخصوصاً مع الازدياد الهائل في حجم مصادر المعلومات الأمنية السرية والعلنية، وبالتالي فقدان الأمن الإسرائيلي الإنذار المبكّر على المستوى العاجل. لذلك، هناك محاولات إسرائيلية لتوسيع دائرة تعليم اللغة العربية داخل كثير من وحدات الجيش و"الشاباك" الإسرائيليَّين، وخصوصاً داخل وحدات التحليل والمتابعة للمعلومات الأمنية والاستخبارية.
ثانياً، زيادة عدد الجبهات المهدِّدة لـ"دولة" الاحتلال على المستويين الفلسطيني والإقليمي، الأمر الذي يرفع عبء العمل الأمني الإسرائيلي على نحو غير معتاد في الأعوام الخمسة عشر الماضية. وكما أوضح نفتالي بينت، رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، فإن ما واجهته "إسرائيل" خلال عملية "حارس الأسوار" ("سيف القدس") في أيار/مايو 2021 "كان نذيراً لأشياء مقبلة"، نعتقد أن أهمها توحيد كلّ الجبهات الفلسطينية على خيار المقاومة، ناهيك بأن دخول فلسطينيي الداخل المحتل عام 1948 على خط المواجهة المباشرة شكّل صدمة للمنظومة الأمنية الإسرائيلية، وتحدّياً جديداً لها، من الواضح أنها لم تكن مستعدة له. أضف إلى ذلك عودة الضفة الغربية إلى خط المقاومة المنظمة، وخصوصاً في منطقة شمالي الضفة الغربية، والتي واكبها تجريم شعبي للتنسيق الأمني الذي تقوم به أجهزة السلطة الفلسطينية، الأمر الذي زاد في أعباء ضبّاط "الشاباك" في متابعة تلك المناطق الساخنة أمنياً.
ثالثاً، التضارب والتعارض بين سياسات الأجهزة المكوِّنة للمنظومة الأمنية الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، الأمر الذي يُحدث ثُغَراً أمنية يستطيع العقل الفلسطيني المقاوم الاستفادة منها. فمثلا، قرّر جيش الاحتلال الإسرائيلي فَتْحَ ثُغَرٍ غير رسمية في الجدار العازل بين الضفة الغربية والداخل المحتل عام 1948، من أجل زيادة عدد العمال الفلسطينيين العاملين في "إسرائيل" بصورة غير قانونية، من أجل تكريس استراتيجية "الأمن في مقابل الاقتصاد"، كحالة كيّ للوعي المقاوم للشبّان الفلسطينيّين في الضفة الغربية، الأمر الذي نظر إليه "الشاباك" الإسرائيلي على أنه ثغرة أمنية تسهّل على منفذي العمليات الفدائية الوصول إلى قلب الكيان الموقت. أضف إلى ما سبق، التداخل في الصلاحيات. والمثال الأبرز، حالة عدم التنسيق بين "الشاباك" والشرطة الإسرائيليين في مناطق الداخل المحتل عام 1948، إلى درجة أن الشرطة الإسرائيلية اتهمت "الشاباك" بصورة مباشرة، بعد معركة "سيف القدس"، بأنه هو من يقف وراء تنامي ظاهرة العصابات الإجرامية داخل أوساط المجتمع الفلسطيني هناك، الأمر الذي يزيد في انتشار الأسلحة النارية بين الفلسطينيين. لذلك، ليس من المستغرب أن يتم تنفيذ اثنتين من العمليات الفدائية باستخدام أسلحة نارية أتوماتيكية غير مصنَّعة، كما هو معتاد في عمليات سابقة في القدس والضفة الغربية المحتلتين. ويجدر بالذكر أن الوضع القانوني لفلسطينيّي الداخل المحتل عام 1948 يساهم في زيادة حدة الاشتباك في الصلاحيات بين الشرطة الإسرائيلية من جهة، وجهاز "الشاباك" من جهة أخرى. فالفلسطيني هناك يحمل الجنسية الإسرائيلية، وبالتالي يقع تحت صلاحيات الشرطة الإسرائيلية، بحسب القانون الإسرائيلي، لكن "دولة" الأبرتهايد الصهيونية تنظر إلى الفلسطيني على أنه خطر وجودي عليها، حتى لو أن قانونها يمنحه المواطنة الإسرائيلية. لذلك، تم تشكيل قسم داخل جهاز "الشاباك" من أجل متابعة فلسطينيّي الداخل المحتل عام 1948، الأمر الذي يُحدث تضارباً وتداخلاً في الصلاحيات الأمنية بين الشرطة و"الشاباك"، ويكشف خاصرة أمنية إسرائيلية رخوة، تحتاج إلى كثير من الإجراءات من أجل تحصينها أمنياً.