كتبت: الإعلامية حوراء قبيسي
ما سعت القيادات الأمنية الإسرائيلية إلى إلصاقه بشمّاعة "داعش" في محاولة لامتصاص الصفعات الأمنية المتتالية في "عملية بئر السبع" أولاً وبعدها في "عملية الخضيرة"؛ اشتبك تلقائياً بسرديات متناقضة مع انضمام جنين إلى مسار العمليات النضالية، ووجدت "تل أبيب" نفسها ملزمة بالخروج من لعبة اختلاط المفاهيم، والإقرار بأنها أمام موجة من العمليات الفردية بأبعاد أكثر فتكاً، أكده المراسل العسكري في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، يوسي يهوشوع "بعد تقييم الوضع، حسمت مصادر استخباراتية أنها لم تجد اتصالاً بين منفذي العمليات الأخيرة في بئر السبع أو الخضيرة وتنظيم داعش، وتندرج العمليات الأخيرة في إطار الهجمات الفردية"، إلا أنه بقدر تكامل العمليات الثلاث في إحداث إرباك أمني بنيوي في "إسرائيل"، كان لغياب التسلسل الربطي بينها، دوراً بضياع "المواصفات المشتركة" التي تترصدها المنظومة الأمنية عادةً في تتبع العمليات الفردية وكشفها، بمعنى آخر"لا عنوان محدّد للهجمات" بحسب ما وصفت الصحيفة نفسها، ما جعلها مقيّدة في دوامة من الإحباط الأمني، وفشل أدوات الردع.
المشتبك الصامت
اختراق جنين مشهدية العمليات الفردية شكّل ضربة المقتل بالنسبة إلى الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، مع ظهور منفذ من الضفة، وليس من الأراضي المحتلة عام 1948، وأسير سابق في سجون الاحتلال، ما يدحض رواية "الإرهاب"، في وقت كانت تقديرات الاحتلال تستبعد خروج عملية من جنين تحديداً، لافتقارها إلى أرضية العمل العسكري المنظم والمحترف، لكن عملية "بني براك" كانت قطرة الدماء التي أفاضت الميدان، بكسرها هيبة "البقرة المقدسة" (الشاباك)، وما رافق ذلك من إخفاقات أمنية مركّبة.
هنا، في ذروة الاستنفار الأمني وفي أوج موجة العمليات، اخترق المنفذ جدار الفصل العنصري ووصل إلى قلب "تل أبيب" بمركبة إسرائيلية من دون تصريح، ثم تسلّم سلاحاً رشاشاً (يُقدّر بعشرات آلاف الشواكل) في الداخل المحتل، وقاد العملية الأكثر فتكاً بمسافة لا تتعدى يومين عن العملية السابقة، وساعات عن إعلان الاستنفار الأمني الشامل في "إسرائيل".
أما الصفعة الأكبر كانت بانتقال الشهيد ضياء حمارشة إلى سيناريو أقرب لمشهدية احترافية: إلمام واضح بإحداثيات الموقع، تنقل حذر ومدروس الأهداف، طلقات قاتلة نحو الرأس، إذاً كان على الأجهزة الأمنية التعامل مع منفذ يمتلك من المهارات العسكرية ما يكفي لإصابة هدف متحرك، بطلقة واحدة (قاتلة) ومن مسافة صفر، بمعادلة 12 رصاصة أجهزت على 5 قتلى إسرائيليين وعشرات المصابين، وفوق ذلك نجح مشتبك جنين الصامت بإصلاح خلل طرأ على سلاحه خلال تنفيذ العملية، حسبما أفادت قناة "كان" العبرية، الأمر الذي يكسب المشهد دلالات تفوق "كسر الهيبة"، إلى "كسر الخوف"، ومع ثبوت أن ابن جنين خلف كل هذا، أصبح معلوماً أن الخطة العملاتية سيعاد هندستها بما يتناسب مع "رأس الحربة" جنين.
في المحصلة، لم يكن الإعلام العبري بأفضل حال من المؤسسة الأمنية الإسرائيلية وما تعانيه من إحباط، انعكس ذلك تبايناً في تغطيات الصحافة الإسرائيلية، ضمن روايات متناقضة سارعت إلى تبني "الأجندة الدعائية" أي أن المنفذ يحمل الهوية الزرقاء (الإسرائيلية)، وعنونت الهجوم ضمن التصنيف ذاته للعمليتين السابقتين، هنا أخفق الإعلام الإسرائيلي عندما قدّم حسماً مبكراً في ذروة الحدث الأمني، لكن ما كان ليحدث خلاف ذلك بعدما قايضت مهنيتها مقابل ستر إرباكها.
ثم أخفق الإعلام العبري ثانيةً عندما سعى إلى إخماد الأسئلة التي كان له الفضل الأكبر في إثارة الرأي العام حولها؛ عن مصدر سلاح المنفذ مثلاً؟ والحقيقة وراء رواية المنفذين الثلاثة المشاركين في عملية "بني براك"، ومصير المطارد بعد تأكيد استشهاد الأول واعتقال الثاني؟ لذا عمد الإعلام العبري إلى تصدير غموض القضية ونقلها إلى "الشاباك" المخوّل وحده "بالإجابة عن مخرجات التحقيق".
من يخرج المستوطنين من منازلهم؟
الإجابة التي لا تملكها المؤسسة الأمنية نفسها، وإن حاولت الظهور بهيئة القابض على أدوات الردع، كشفت الخطابات الرسمية الإسرائيلية عن عمق التخوف الأمني، وضبابية الحسم لديها؛ في معركة تواجه فيها ذئاباً منفردة، لا تخضع لمعايير القطيع لا في اختيار الفريسة ولا في اصطيادها، القدرات الاستخباراتية هنا، لا يمكن أن تحيط بعقلية المنفذ، ولا بالتنبؤ المبكر عن مخططات العملية التي لن تخرج إلى العلن إلا لحظة انطلاق الرصاصة الأولى، وبالتالي إن ما تعد به المؤسسات الأمنية يقع خارج نطاق قدراتها، وما تهدد به من الإجراءات العقابية في الحقيقة هو عامل محفز لمسار ملهم من العمليات النضالية، والمزيد من الهجمات المنفردة.
إذاً من يُخرج المستوطنين من منازلهم؟ أو الأصح من يعيد الأمن إلى شوارعهم؟ عقب عملية "بني براك" سارع رئيس البلدية إلى مناشدة المستوطنين للبقاء في منازلهم "ولا تخرجوا منها"، في تلك الليلة تحديداً "الصعبة والقاسية" كما وصفها وزير الحرب بيني غانتس، ستمتد "الصعوبة" إلى ما أبعد من القتل المحتمل في أي لحظة إلى سلب الأمن وإعادة إحياء ذاكرة الخوف عند الصهاينة، عبّر عنها المحرر في الشؤون الفلسطينية بصحيفة "يديعوت أحرنوت": "قبل 20 عاماً كنا نخاف الصعود في الحافلات، واليوم بتنا نخاف السير في الشوارع"، كما لا يمكن تحييد دعوة الحاخام الأكبر لـ"إسرائيل" ديفيد لاو لـ "الصلاة حتى يزيح الله هذه الغمة" عن مسارات فقدان الأمن التي تقييد "إسرائيل"، بدليل ارتفاع عدد البلاغات عن مشبوهين إلى أكثر من 80 بلاغاً في يوم واحد حسبما أفادت صحيفة "معاريف".
بالتالي، كان لا بد أن تتصدى القيادات الإسرائيلية لتبرئة ساحة الأمن من إخفاقاته في العمليات الثلاث، بررها وزير خارجية الاحتلال يائير لابيد "الانتقادات لجهاز الشاباك غير صحيحة وغير عادلة، وتخلو من المسؤولية الوطنية، وفي العمل الاستخباري، لا يمكن أن يكون هناك نجاحاً بنسبة 100%".
"الأمواج" تُغرق "السنبلة"
صحيح أن عملية "كاسر الأمواج" أفرزتها الأرضية الخصبة لعمليات إطلاق النار المتتالية إلا أنها تسلقّت على خطة "تل أبيب" الأولى لمواجهة التصعيد المتوقع في رمضان والتي حملت اسم "نمو السنبلة"، لكن التصعيد الخطير -حتى قبل أن يبدأ الموسم الرمضاني- تطلب تحوراً ديناميكياً في الخطة بهدف كسر موجة العمليات وكبح العدوى النضالية، بما في ذلك لجم المسار التصاعدي لعدد القتلى (11 قتيلا إسرائيلياً في أسبوع)، لاستعادة ثقة الجمهور بقدرة المنظومة الأمنية والعسكرية على توفير الأمن، من خلال تنفيذ عمليات اغتيال واعتقال تستهدف خلايا المقاومة، بقراءة أعمق؛ تغطية الفشل الأمني المتتالي مع إبقاء غزة خارج المعادلة تجنباً لأي انزلاق أمني كي يوحدّ الجبهات مجدداً، فإذا "لم نُقم "كاسر أمواج؛ سنغرق" حسبما كشف العميد المتقاعد زفيكا فوغل.
"أطلّ عليكم من سليل الشهيد فتحي الشقاقي"
بالإستناد إلى الذهنية الإسرائيلية وظّفت القيادات الأمنية والعسكرية العملية المعلنة "كاسر الأمواج" في تفريغ انتقامي لتحقيق مكاسب من شأنها رفع أسهمها عند الجمهور، وبالتالي كانت معنيّة بنقل المعركة إلى داخل الضفة، وبالتحديد من المكان الذي خرج منه منفذ عملية "بني براك" أي جنين مجدداً، باعتبارها "مركز التهديدات الموجهة ضد إسرائيل" حسب صحيفة "يديعوت أحرنوت".
وعلى خط موازٍ رافق الحملة على جنين دعاية إعلامية، وضعت الجهاد الإسلامي في مقدمة العقبات الأمنية "بمحاولتها جذب حشد من المؤيدين الناشطين الشباب، حتى باتت تكتسب تعاطفاً وشعبية واسعة في الضفة" كما أفاد تقرير لـ"القناة 12"، وحوّلت -استكمالاً لرواية المصدر نفسه- "مبالغ كبيرة لتشكيل خلايا عسكرية وتنفيذ عمليات في الضفة"، هذا بالتزامن مع تصدّر "كتيبة جنين" (سرايا القدس) عناوين الإشتباكات في مخيم وبلدات جنين وارتقاء عدد من ابناءها لم يكن آخرهم الشهيد عبد الله الحصري، وتلقيها إشادة حصرية من أمينها العام، زياد النخالة.
في الحقيقة، إن تدشين خطة "كاسر الأمواج" بعملية اغتيال في جنين، التي أدت لاستشهاد المقاومين الثلاثة من سرايا القدس، صائب عباهرة، وخليل طوالبة، ويوسف أبو لبدة، بعد نصب كمين لمركبة كانوا يستقلونها على مدخل بلدة عرابة، جنوب جنين، إقراراً ضمنياً على عمق الضربة التي تسببت فيها عملية "بني براك"، قرأه الصهاينة إنذاراً بالتحام الساحات، وإنذاراً خطيراً باستنساخ مشهدية تجول مقاوم بسلاحه بين مستوطنيه.
لذا كان الزخم على قدر الألم، فاستقدمت المنظومة الأمنية والعسكرية وحدة "تكيلا" الخاصة كشفت عنها "القناة 12"، لتنفيذ عملية الاغتيال المذكورة، وتتسم الأخيرة بسرعة التنفيذ ووصولها الخاطف إلى مسرح العملية، مع ذلك، انتقد المحللين العسكريين المجازفة بتعريض قوات الجيش الخاصة للخطر في جنين، بعد أن أسفرت عملية الاغتيال عن 4 إصابات من بينها قائد الوحدة الذي تعرض للإصابات الأخطر، على الرغم من مشاركته على مدى الـ20 سنة الماضية بأهم عمليات الإغتيال والإعتقال؛ من بينها اعتقال أسرى جلبوع في جنين، وصل الأمر إلى طرح خيار الإغتيال باستخدام السلاح الجوي والصواريخ لاستهداف المقاومين.
لعل المستهدف الأول من عملية الإغتيال الشهيد سيف أبو لبدة الذي لم يكن على علم أن المسافة التي تفصله عن الشهادة بضع أمتار، وتحديداً في الليلة التي ألقى في وصيته عقب عرض عسكري لـ "كتيبة جنين" بذكرى معركة المخيم، إلا أنه أجاب غيرعامد، أن كل شاب هو شهيد حي إلى حين ارتقائه "أنا العبد الفقير إلى الله الشهيد الحي سيف أبو لبدة، أطلّ عليكم من سليل الشهيد فتحي الشقاقي".
"12 رصاصة"
ثم تحقق ما كانت تخشاه المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، سيناريو ما كانت لتنتظره في أسوأ تقديراتها، بأن الرصاصات الـ 12 التي أطلقها الشهيد ضياء حمارشة في عملية "بني براك" ستجد طريقاً لها إلى "تل أبيب" مرة أخرى لا تنقصها رصاصة واحدة، وهو ما أكدته "القناة 12: "المنفذ أطلق 12 رصاصة وأصاب بها 9 مستوطنين في "تل أبيب"، إلا أن العملية التي جاءت في أكثر الشوارع اكتظاظاً بقلب "تل أبيب" في شارع "ديزنغوف" بالتحديد، أيقظ الجيل القديم من العمليات النوعية التي ارتبط بالمكان، كان آخرها مقتل إسرائيليين أيضاً في عملية إطلاق نار وقعت في حانة بالشارع ذاته عام 2016، وقبلها عملية الاستشهادي صالح صوي الذي فجّر حزاماً ناسفاً بزنة 20 كيلوغراماً، وقتل حينها 23 إسرائيلياً.
المفارقة هنا، توقيت العملية الحساس جداً، فحكومة بينت تصارع الهواء عقب انسحاب أحد أعضاء الائتلاف، مع صعود نجم نتنياهو الذي استغلّ فشل القيادات الأمنية للمطالبة بحلّ الحكومة، ثم أتت عملية " ديزنغوف" بالضربة القاصمة، بالنسبة للمحلل العسكري في صحيفة "يسرائيل هيوم" رأى أن "دولة بأكملها وقفت لتشاهد مطاردة المنفذ وتتابع صور الجرحى، في وقت حساس جداً، ليس فقط بسبب المكان والزمان، هو أيضاً اليوم الأول من عطلة عيد الفصح".
أما من الناحية الميدانية، فالمشهدية ترقى إلى "حرب الشوارع"، عمليات إنزال وتمشيط، دوي انفجارات متكرر، هروب جماعي وحظر تجول، استدعاء النخب كوحدات "سييرت متكال" و"هالوطر" و"اليمام" و"الشاباك" و"شييتت 13" و"شلداج"، مطاردة معلومات قائمة على الاشتباه، بدايةً بالإعلان عن عملية مزدوجة ليعاد تصحيح الخبر إلى وجود 3 منفذين، تلاه احتمال التعامل مع عملية حجز رهائن، ثم تجدد إطلاق النار من منطقة في "رعنانا" بـ "تل أبيب" في ذروة الاستنفار، كل هذا والمبنى المحاصر اتضح أنه خالٍ، والمنفذ حسب قناة "كان": " لم ترصده أي كاميرا أمنية هو أمر غريب للغاية في الشارع الأكثر مركزية في "تل أبيب" تحدث فيه عملية كهذه، هذه ليست صورة المنفذين الذين عرفناهم"، وبالتالي التفت خيوط العملية حول المنظومة الأمنية نفسها، فملامح المنفذ غير معروفة وهويته مجهولة، كما هو الحال بالنسبة للجهة التي أتى منها والأخطر الجهة التي توجه إليها، ما استدعى قيام عناصر الشرطة بالبحث تارة عن المنفذ بين جرحى مستشفى "فولفسون" وتارة التعامل مع فرضية أن المنفذ قد يكون ضمن الفرق التي تبحث عنه حسبما أفاد موقع "حدشوت بتخون سديه".
لكن الفرضية الوحيدة التي ثبّتها صاحب عملية "الرصاصات الـ12" الثانية، الشهيد رعد فتحي خازم من مخيم جنين، أن كياناً بأكمله كان يطارد شبحاً لـ9 ساعات إلى حين ارتقائه فجراً، وأن المنازل التي دُعي المستوطنون إلى عدم مغادرتها، لن تطرد فكرة أن مشتبكاً متجولاً آخر على الاستعداد لإطلاق 12 رصاصة غيرها بما أنا المخزن الفلسطيني أصبح ممتلئاً.