المتأمل لمجريات الأحداث في مخيم جنين يدرك أن أبعاد هذه الحالة الثورية المتسارعة في تطورها مؤخرا بالغة الأهمية وتحتاج فعلا لوقفة ودراسة دقيقة غير سطحية أو عاطفية لاستخلاص العبر وتحقيق الأهداف المرجوة فلسطينيا وإسلاميا.
سعى الاحتلال على مدار سنوات سابقة لإحكام السيطرة الأمنية على مدن الضفة المحتلة ونفذ الآلاف من العمليات الاجرامية والمجازر وواصل الليل بالنهار للقضاء على أي صوت مقاوم فضلا عن أي رصاصة وطنية موجهة لصدره، كما وفّر كل وسائل القوة للسلطة الفلسطينية هناك وجعل التنسيق الأمني في قمة الأولويات.. ثم سَوّق لبرامج "التسهيلات" والعمل في الداخل المحتل بأجر مرتفع.. كل ذلك لم يكن عبثا وإنما لأن قادة الاحتلال أدركوا الخطر الحقيقي الذي تمثله الضفة المحتلة على مستقبل الكيان ووجوده، فالتداخل الكبير بين مدن الضفة والداخل المحتل عام 48 كبير جدا ولا يمكن ضبط الأمن والحيلولة دون استمرار تنفيذ عمليات فدائية فلسطينية في قلب الكيان مادام في الضفة ثائر..
للأسف!.. حقق الاحتلال نجاحا على مدى سنوات من الملاحقة والاقتحامات اليومية وبمساعدة كبيرة من رجال التنسيق الأمني في السلطة الفلسطينية مقابل إمتيازات وحوافز ضخمة، ليصبح الفعل المقاوم صعبا جدا ومحدود الأثر، ثم سَهّل وصول العمال الفلسطينيين للداخل وغض الطرف عن مئات الثغرات التي يعبرون منها، حتى بات نحو 40 ألف عامل يصلون للداخل يوميا ومن الصعب منعهم وإغلاق كل الثغرات ونشر آلاف الجنود بشكل متواصل لأسابيع أو أشهر بحسب تقرير للقناة الـ13 الصهيونية.
هذا التطور كان كفيلا بأن يجعل مجرد التفكير لدى أجهزة الأمن الصهيونية بعودة الضفة إلى ثورتها ونشاطها بما يشبه ما كان قبل نحو 20 عاما أمرا خطيرا جدا ويستوجب العمل ضده بسرعة وقوة كبيرة.
هذا بالضبط ما نراه منذ أيام في حالة الهستيريا على شاشات التلفزة الصهيونية، فاستيقاظ الثوار في الضفة يعني ضربات قوية في العمق وإختراق أمني يستحيل السيطرة عليه، لذلك قرر جيش العدو بشكل مباشر الهجوم على أهم معقل للثوار وهو مخيم جنين والبدء بعمليات استنزاف يومية.
لا أظن أن بيننا من نسي العدوان الصهيوني الواسع خلال العام الماضي على قطاع غزة، وما رافقه من دعوات فصائلية لأن يضرب ثوار الضفة الاحتلال في كل نقاط الاشتباك وفي العمق، ليس لأن غزة كانت ضعيفة وإنما لأن الجميع كان يدرك أن عملية فدائية في "تل أبيب" مثلا ستكون أكثر إيلاما من رشقة صاروخية تنطلق من غزة على ذات المدينة، وستضيف بعدا آخر لمعادلة الاشتباك، لكن كيف سيكون الحال إذا تمدد الفعل الثوري في مدن الضفة، ورأينا نسخا أخرى من نموذج كتيبة جنين المشرّف، سيجد الكيان نفسه أمام كتيبة الخليل وكتيبة نابلس وكتائب رام الله والبيرة وطولكرم وسلفيت وأريحا وقلقيلية وغيرها.
أحسنَت سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الاسلامي وأبدعت في مبادرتها بتشكيل كتيبة جنين في ظروف شديدة التعقيد فجعلت ما كان يصفه الكثيرون بالمستحيل واقعا، ليصبح المخيم الصغير حاضنة للمقاومين وجدارا متينا ليس من السهل كسره على الأقل، في ظل تواجد عشرات المقاتلين "المجانين" كما يصفهم العدو والمستعدين للشهادة في أي لحظة، بما يحملون من فكر الدكتور المبادر والقائد الاستثنائي الشهيد فتحي الشقاقي.
اعتاد الكيان أن تهدد الفصائل في غزة بالرد على الجرائم المرتكبة في مدن الضفة والقدس، فربط أي فعل مقاوم من غزة بثمن باهض يتمثل بعدوان واسع، لكن السيناريو الأخطر الآن الذي تمثله هذه الحالة الثورية في جنين هو الذي يرعب قادة الكيان إذا ما اشتد عود المقاومين وتمكنوا من بناء "أعشاش دبابير" آمنة لهم يتخوف الاحتلال من اقتحامها، حينئذٍ سيجد نفسه أمام تهديدات معاكسة أشد قوة يلوّح بها الثوار هناك في حال فكر العدو بالعدوان على غزة.
ما هو مطلوب اليوم هو توفير الوقت الكافي لتتمكن كتيبة جنين من التوسع سواء من خلال الدعم المالي والتسليحي من الداخل والخارج أو بإشغال العدو في أكثر من ساحة وملف، وبوتيرة محكمة ومتزنة، ولا أعتقد أنه من المستحيل أن يطل علينا بطل من عمقنا العربي والاسلامي ليجتاز الحدود ويضرب هذا العدو بما يستطيع من قوة، أو أن يسافر من أي دولة مُطبّعة لأحد مطارات الكيان ويقدم واجبه الديني والأخلاقي، هذا ما يجب فعلا لنمنع وأد الثورة الفتية في جنين ومدن الضفة حتى يشتد عودها، وتصنع المعادلات القوية، حيث لا يستطيع حينها هذا العدو أن يقضي عليها بكل ترسانته النووية، ويُصدّق كل العالم وقتها أن هذا الكيان وحش من غبار كما قال الأسير البطل محمود العارضة وربما يختفي بالرعب الذي سيملأ صدور مستوطنيه كما ملأها الشهيد رعد حازم بعدة طلقات.