روى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري حين أتى على ذكر بناء المسجد النبوي، قال: "كُنَّا نحملُ لبنةً لبنةً وعمارٌ لبنتين لبنتين، فرآهُ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – فينفضُ الترابَ عنْه، ويقولُ: ويحَ عمارٍ، تقتلهُ الفئةُ الباغيةُ، يدعوهم إلى الجنةِ، ويدعونهُ إلى النار."
وبالفعل قُتل عمارٌ في واقعةِ صفين على يد جيش الشام عندما كان يُقاتل في جيش الخلافة الراشدة، فأحدثَ ذلك زلزلة في جيش الشام، فتداركَ معاوية بن أبي سفيان – والي الشام – الأمر، فعمدَ إلى تأويل الحديث النبوي، بقوله: "إنّما قتلهُ الذين أخرجوه"، محاولاً بذلك تقديم رواية مُضادة لمضمون الحديث الصريح الخاص بتحديد الفئة الباغية على الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب؛ لإضفاء نوع من الشرعية والمصداقية على صراعه ضد الخليفة الشرعي، فكان ذلك نوعاً من صراع الروايات.
هناك أنواع أُخرى لصراع الروايات غير نشر الرواية المُضادة، هو تغييب رواية الآخر المنافس أو الخصم أو العدو، كما حدث مع اللواء محمد نجيب، في النزاع على السلطة داخل مجلس قيادة الثورة، بعد إطاحة النظام الملكي؛ فقد ورد في كتاب (كنتُ رئيساً لمصر) لمحمد نجيب، الذي سجّل فيه حواراً مع ابنه فاروق عندما كان طفلاً، فكتب "فاروق: أبي، هل صحيح أنّك كنتَ رئيساً للجمهورية؟ فقلت له: نعم يا بُني... ولكن ما الذي جعلك تسأل هذا السؤال... هذا التاريخ مضى وانقضى، ولمحتُ دموعاً حائرة بين عيني الصبي، وهو يقدّم لي كتاباً في المطالعة جاء فيه هذه العبارة: وجمال عبد الناصر هو أول رئيس لجمهورية مصر العربية". وهذا ما درسته الأجيال على مدار أربعين عاماً، فعُرفتْ رواية الغالب وجُهلتْ رواية المغلوب، حتى أُعيد له الاعتبار تقديراً لدوره في ثورة 23 يوليو.
الصراع على الرواية بين الغالب والمغلوب كجزء من الصراع على السلطة لم يكن فقط داخل مجلس قيادة الثورة والضباط الأحرار والنظام الحاكم، بل كان أيضاً بين كل هؤلاء وجماعة الإخوان المسلمين. وبقدر حجم التناقض والقسوة في الصراع بين الطرفين، كان الصراع على الرواية أكثر تناقضاً وأشد قسوة، وصل إلى اتهام الإخوان المسلمين بالخيانة والتآمر على الدولة المصرية، ووصل إلى اتهام النظام الناصري بالكفر والخروج عن الديانة الإسلامية. ولم تتغير الروايتان جوهرياً بتغيّر رؤساء مصر ومرشدي الجماعة وتعاقبهم، وصولاً إلى ثورة يناير عام 2011م، والأحداث التي تلتها عامي 2012 – 2013م، التي انتهت بإطاحة الرئيس المصري المنتمي إلى الإخوان المسلمين محمد مرسي، فكان في هذا الصراع، هو والجماعة، الطرف المغلوب في الصراع على السلطة، بينما الجيش المصري وأركان الدولة المصرية هم الطرف الغالب، ولكلٍ منهما روايته الخاصة للصراع قدّمها بعدة وسائل، كانت الدراما التلفزيونية حاضرة بقوة فيها مجسّدة في مسلسل (الاختيار)، ولا سيما الجزء الثالث منه، الذي يُعرَض حالياً كرواية السلطة أو الغالب لما حدث في حلقة الصراع الأخيرة.
الصراع على الرواية بين الغالب والمغلوب كان – ولا يزال – رديفاً للصراع على امتلاك قوتي السلطة والثروة، واحتكار تمثيل الدين والحق، والاستحواذ على مفاتيح المعرفة والحقيقة. وسواء أكان الصراع بين الشعوب والأمم المختلفة أم داخل الشعب الواحد والأمة الواحدة، فإنَّ آليات تدعيم رواية الذات ضد الآخر، سواء الغالب أم المغلوب، واحدة، ومنها: شيطنة الآخر، بإعطاء الآخر – المنافس أو الخصم أو العدو – صورة الشيطان والشرير والمجرم، بمعنى تنميط الآخر سلبياً بعدة طرق، هي: التبسيط (نحن الحق وهم الباطل)، والمبالغة (تضخيم عيوب الآخر)، والتحيّز (التعصب ضد الآخر)، والتعميم (جميع أفراد الآخر سيّئون). وعملية الشيطنة هدفها إيجاد مُبرّر أخلاقي ومسوّغ نفسي لرواية أطراف الصراع، بعضهم ضد بعض، وتهيئة جماهيرهم لتقبّل أي ممارسات غير إنسانية ضد الآخر، بما فيها القتل.
ومن آليات تدعيم رواية الذات ضد الآخر إلغاء تاريخه وتغييبه عن الوجود؛ فعدم تداول السلطة بطريقة سلمية وديمقراطية، وانتقالها بالقوة الجبرية، يجعلان الغالب أو المنتصر يشعر بالاستعلاء بقوته وبالخوف من أعدائه، فيذهب مع بطانته ومؤرّخيه إلى رواية مزدوجة، تضخّم (إيجابياته وإنجازاته)، وتُلغي تاريخ سابقيه بما فيه من إيجابيات وإنجازات، فتغيّب روايتهم، أما المغلوب فقد يتبنّى رواية المظلومية بطريقة مبالغ فيها بحيث يُلغي رواية الآخر.
وكذلك الرواية الأُحادية للتاريخ، وخاصة من وجهة نظر المنتصر الغالب، في الصراعات الداخلية وبين الأمم، ومن أمثلة ذلك، رواية الأوروبيين الغزاة خارج أوروبا بأنها عملية حضارية أخلاقية لترقية الشعوب (المتخلّفة) وتعمير الأرض (البور)، وليس كمحتلّين قساة وناهبي ثروات الأمم من زاوية الشعوب المُحتلة أراضيها. وفي التاريخ العربي الإسلامي كُتبت روايتنا للفتوحات العسكرية كرسالة دينية حضارية، وغابت عن المؤرّخين العرب روايات الشعوب المغلوبة.
وكذلك إسقاط الأيديولوجيا على أحداث التاريخ من وسائل تدعيم الرواية في الصراع، ولا سيّما الغالب والمغلوب، فتجري من خلال هذه الآلية رواية أحداث التاريخ بطريقة انتقائية لاختيار الأحداث المنسجمة مع الأيديولوجيا، وتُفسّر الوقائع بما يخدم الفكرة، وتؤوّل الأقوال لتطابق الرواية المعتمدة للصراع، بمعنى أدلجة الأحداث والوقائع والأقوال بطريقة تخدم روايات الذات ضد الآخر، كما حدث في الانقسام الفلسطيني عندما أصبحت لدينا روايتان للأحداث نفسها.
وأخيراً، فإن صراع الرواية بين الغالب والمغلوب هو أمر طبيعي في ظل حتمية الصراع الإنساني، وسيكون النصر والظهور في النهاية للرواية الأكثر صدقاً، والقضية الأكثر عدالةً، والرسالة الأكثر أخلاقية.