يجلس أبو حازم على سرير المرض ينتظر طيف ابنته مها، يصدح بصوته الممتلئ بالآلام: "جاء وقت الدواء يا مها اشتد الألم أين أنتِ يا ابنتي؟" كلماته هذه نزلت كالسيف على قلب والدتها وجميع من حولها من النسوة الذين يستمعون وعيونهم تذرف دمًا، وألسنتهم تقول: خطفوا مها في عز شبابها الله يرحمها".
في التاسع من رمضان 1443 الموافق 10 أبريل 2022 تركت مها لمساتها الأخيرة في المنزل، فقد مسحت دمعة والدتها بكفيها الناعمتين، وأعطتها الدواء اللازم لتخفيف الألم الذي ينهش جسدها، وفي ذات الغرفة يجلس والدها على سرير المرض، حيث يعاني من جلطة قاسية منذ نحو عام، فكانت "مها" خير معين لوالديها.
وبعد أن اطمأنت مها الزعتري (24 عامًا) على والديها، ارتدت جلبابها وحجابها، وحملت بيدها حقيبتها التي تحتوي على مصحف – قرآن كريم- وكتاب أحكام التلاوة والتجويد، واتجهت إلى المسجد الإبراهيمي لحضور جلسات التلاوة والذّكر؛ لكن مها خرجت، ولم تعد حتى الآن.
صعدت مها في ذلك اليوم سيارة من بلدتها "أبو دعجان" في مدينة الخليل المحتلة، وما أن وصلت منطقة باب الزاوية حتى ترجلت مسرعة، وقلبها مشتاق للجلوس في حلقات الذّكر وتلاوة القرآن في الحرم الإبراهيمي، واجتازت البوابة العسكرية للاحتلال الإسرائيلي كعادتها؛ لكن يبدو أن النور الساطع من وجهها المضيء أثار حقد وغضب المجندة التي تقف متسكعة على حاجز التفتيش.
لحظة الشهادة
صرخت المجندة الحمقاء التي تقف على حاجز التفتيش "وقفي وقفي" مصوبة فوهة البندقية على جسد مها، في تلك اللحظة التفت إليها الجنود المرعوبون مبادرين بإطلاق النار صوب مها دون أن تُشكل لهم أي تهديد على حياتهم؛ ما يُدلل على أن الجنود الإسرائيليين أوهن من بيت العنكبوت، يرهبهم فقط ظل الفلسطيني عندما يمر عبر حواجزهم العسكرية.
لم تتمكن مها من الاستجابة لصرخات المجندة والاستفسار عن سبب صراخها؛ فقد أصيبت مباشرة بأكثر من رصاصة في جسدها دون سابق إنذار، لحظات وتلونت الأرض بلون الدم الطاهر الذي نزف كثيرًا من جسد مها، حيث وقف جنود الاحتلال أمام جسدها يتباهون ويضحكون على دمها النازف.
ولم يرق لجنود الاحتلال الإسرائيلي خطف روح مها فقط، بل تعدى ذلك وخطفوا جسدها الطاهر إلى مكان مجهول، حاول بعض الرجال المتواجدين أمام الحرم الإبراهيمي تقديم المساعدة للفتاة مها؛ إلا أن فوهة البنادق الإسرائيلية مصوبة تجاههم، فتجمدت حركتهم، وسالت دموعهم بحرقة وألم.
أين أنتِ يا مها؟
في المنزل دقت ساعة تناول الأبوين للأدوية، فنادت والدتها: "مها أين أنتِ يا ابنتي؟ جاء موعد الدواء"، لم يجبها سوى صدى صوتها، حاولت تكرار النداء دون استجابة من مها، هنا بدأ الخوف يتسلل إلى قلبها، وزادت خفقات القلب ترتفع رويدًا رويدًا مع وصول بعض النسوة للبيت.
بيديها المرتجفتين فتحت أم حازم هاتفها النقال، وفجأة انهمرت الدموع كالنهر الجارف على خديها، توقف قلبها، تلعثم لسانها، تجمدت حركتها من شدة الصدمة: "هذه صورة مها، هذه ملابسها أنا بعرف لون جلبابها..! مها استشهدت..!".
صرخات أم حازم للصدمة الأولى من استشهاد ابنتها مها أحرقت قلوب النسوة، وأبكت عيونهن دمًا، بقي المشهد المبكي برهة من الوقت، ثم عاد الهدوء، وتركت لسانها يردد ويقول: "الحمد لله الحمد لله الحمد لله"، مسلمة ومؤمنة بقضاء الله وقدره.
تقول أم حازم وحديثها مليء بالحزن والألم لـ "شمس نيوز": في التاسع من رمضان يوم الأحد، خرجت مها إلى الحرم الإبراهيمي لتحفظ القرآن الكريم؛ لكن لم تعد للبيت حتى الآن"، مؤكدة أن جميع الروايات الإسرائيلية عن ابنتها مها بأنها نفذت عملية طعن كذب وخداع، مها كانت حاملة القرآن الكريم وكتاب التفسير والتجويد، ولم تحمل السكين في حياتها".
لم تتمكن أم حازم من ضبط مشاعرها، حيث بكت بحرقة على ابنتها، متسائلة، "من سيشتري الأدوية؟ من سيعطينا الدواء في موعده المحدد؟ كانت تقدم لنا المساعدة كثيرًا، وتحفظنا وتحمينا، وكانت تسهر الليالي لتطمئن علينا".
اخترنا لكم: رصاصة قناص تطفئ أحلام "عمار" وتمنعه من "ارتداء بدلة العريس"
وعن الأخلاق التي تتميز بها ابنتها الشهيدة مها قالت أم حازم: "مها نوارة البيت، يكفي أنها حفظت 20 جزءا من القرآن الكريم، وحصلت على معدل ممتاز في التلاوة والتجويد"، وعاهدت والدتها نفسها بأن تكمل ما بدأته مها بحفظ الأجزاء المتبقية من القرآن الكريم.
أكثر ما يؤلم أم حازم أنها لم تتمكن حتى الآن من تقبيل جثمان ابتنها الطاهر لتقول بصوتها المثقل بألم الفراق: "خطفوها من بين أيدينا، خطفوا بنتنا منا، أعطوني بنتي، بدي أقبلها، أحضنها، أدفنها، ألمسها، أمانة عليكم اعملوا كل الي ابتقدروا عليه، هاتوا جثمان البنت".
ورغم استشهاد مها؛ إلا أن لسان والدها المريض لا زال ينادي باسمها عله يجد استجابة لصدى صوته، تقول فتاة من أقرباء مها لـ "شمس نيوز": "والدها متعلق بها كثيرًا، فهي من تشتري له الدواء، وتحفظ موعد تناول الأدوية، كانت فتاة مطيعة ومهذبة رحمها الله".
سجدة الوداع
تستذكر تلك الأم آخر ما فعلته مها وبقي في ذاكرتها إلى الأبد فتقول: "في أحد الأيام كانت مها في غرفتها تستقبل القبلة، وتصلي ركعتين لله عز وجل، وبعد انتهاء الصلاة جلست على السجادة رافعة أكفها إلى السماء مناجية الله، حيث بكت بكاءً حارًا، وكان قلبها ينبض بالإيمان والأمل برضا الله عز وجل".
كانت مها منسجمة بالدعاء عندما دخلت عليها تلك الفتاة التي توقفت عند الباب تستمع لمناجاة مها، وفجأة وقعت عينا مها على قريبتها التي بكت بحرقة وألم على المشهد الذي رأته أمامها.
أكثر ما كانت تردده مها قبل استشهادها بأن يرضى الله عنها، وأن تنال رضا والديها وأحبابها أجمعين، وأن يُسامحها كل من أخطأت في حقهم، وكانت تردد دومًا بأن يحفظ الله والديها، ويشفيهما من الأمراض والأسقام.