شهد شهر رمضان الحالي والماضي تصاعداً في الهجمة الإسرائيلية على المسجد الأقصى ومدينة القدس من خلال قوات الاحتلال والمستوطنين، في محاولات متكررة للسيطرة عليه دينياً بتقسيمه زمانياً ومكانياً، بعد أنْ سيطرت عليه "إسرائيل" عسكرياً منذ النكسة أو النكبة الثانية.
في المقابل، كان التصدي الفلسطيني البطولي لهذه الهجمة حاضراً بقوة طوال الشهر المبارك، ما جعل الأقصى في بؤرة الصراع مع الاحتلال، والقدس مركز الصراع مع الكيان الصهيوني، لتختصر القدس والأقصى الصراع على فلسطين، ولتختزل فلسطين الصراع بين الأمة والغرب، وبين المستضعفين والمستكبرين، وبين الحق والباطل...
هذا هو جوهر معنى يوم القدس العالمي الذي أبدعه الإمام الثائر آية الله الخميني – رحمه الله – مُفجّر الثورة الإسلامية ومؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران، ليضع ملامح النصر القادم للأمة عندما تكتمل – من خلال معنى يوم القدس العالمي – دائرة النصر.
بدأ فكر الإمام الثائر يخط دائرة النصر منذ أنْ كانت القدس وفلسطين حاضرة في إيران الثورة، من خلال حضورها في فكر قائدها الذي اعتبر تحالف النظام الملكي مع الكيان الصهيوني أهم أسباب نزع الشرعية عن نظام حكم الشاه محمد رضا بهلوي والتحريض على الثورة ضده، واعتبر الإمام أن فلسطين هي قضية المسلمين الأولى، وأن تحريرها من الصهاينة واجب شرعي على الأمة الإسلامية، واعتبر الكيان الصهيوني الخطر الأول على المسلمين، ورأى أنه غدة سرطانية يجب اجتثاثها وإزالتها من الوجود.
هذا الحضور تحوّل إلى نهج عملي وسياسة ثابتة لإيران الدولة، فدخلت فلسطين في صلب مشروعية الثورة وهوية الجمهورية، ودعم فلسطين شعباً وقضية ومقاومة اعتُبر واجباً دينياً وأخلاقياً وإنسانياً، وحوّلت الجمهورية سفارة "إسرائيل" إلى سفارة فلسطين كرمزٍ للتحرير القادم لا محالة، ورفعت شعار "اليوم إيران وغداً فلسطين"، وأنشأت داخل حرس الثورة "قوة القدس" لدعم المقاومة الفلسطينية. وقد أتى إعلان مرشد الجمهورية الإمام الخميني "يوم القدس العالمي" في هذا السياق، للتضامن مع الأقصى والقدس وفلسطين وتأكيد الالتزام بتحريرها.
إبداع يوم القدس العالمي في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك كختام لشهر العبادة والتقرّب والتطهر، هدفه أن يتذكر كل مسلم في العالم القدس، لتكون قبلته الأولى في الاهتمام والجهاد، كما كانت قبلته الأولى في العبادة والصلاة، ولتكون قضية المسلمين المركزية كمحور للصراع الحضاري بين الأمة والغرب، كما كانت وجهة المسلمين الأولى خارج الجزيرة العربية في عهد الرسول (ص).
هذا الإبداع يعني استمرار معارضة الأمة لوجود الكيان الصهيوني كخنجرٍ مغروس في قلبها (القدس)، ويعني دوام إنكار الأمة لشرعية الكيان والتطبيع معه، ويعني ديمومة مأزق الكيان الوجودي وحتمية زواله من الوجود، ويعني تذكيراً متواصلاً بطبيعة الصراع على الأرض والتاريخ والرواية مع الكيان الصهيوني كرأس حربة للمشروع الاستعماري الغربي المُضاد لمشروع نهضة الأمة ووحدتها واستقلالها وحريتها.
يوم القدس العالمي هو كلّ أيام الجهاد والمقاومة التي تكون فيها القدس وفلسطين حاضرةً في مركز الصراع والمواجهة، وحاضرةً في بؤرة الإيمان والوعي والوجدان. وعندما تكون أيام الأمة كلّها أيام القدس، وتقترب الأمة من فلسطين لتصبح أرضها كلها في أكناف بيت المقدس، وعندما يقترب زمان الأمة ومكانها من القدس وفلسطين، وتحافظ على استمرارية يوم القدس، فهذا يعني أن لا يكون المسجد الأقصى "هارهبيت"، وأن لا تصبح القدس "أورشليم"، وأن لا تتحول فلسطين إلى "إسرائيل"، ويعني أن لا تستبدل الأمة بوعد الآخرة وعد بلفور، وبمشروع التحرير مشروع التطبيع، وبمحور المقاومة محور المساومة.
إحياء يوم القدس يعني أنَّ الأمة لن ترفع راية الاستسلام، ولن تُسلّم بالهزيمة أمام عدوها، وأنَّ الحرب لم تضع أوزارها بعد، وأن السجال حتى زوال الاحتلال، وأنَّ خيار الجهاد والمقاومة هو قدر الأمة ودمها الذي يجري في شرايينها ويسري في روحها، ومعه تتجدد حيوية الأمة ونهضتها وثورتها وعزتها وكرامتها.
تكتمل دائرة النصر في يوم القدس العالمي، عندما يلتقي الزمان والمكان والقرآن في ثلاثية الإبداع؛ إبداع يربط قداسة زمان شهر رمضان المبارك بقداسة مكان بيت المقدس وأكناف بيت المقدس (القدس وفلسطين)، وقداسة القرآن الكريم في سورة الإسراء الحاضنة لوعد الآخرة المُبشّر بتحرير القدس وفلسطين، لتكتمل بتلك الثلاثية المقدسة دائرة النصر الموعود من الله تعالى للأمة الإسلامية.
إن شهر رمضان كزمانٍ مبارك يحمل في معانيه أسباب النصر، من خلال أخلاق النصر وصفات الفلاح المستوحاة منه، وأهمها الإخلاص والصبر والمجاهدة والثورة، والمسجد الأقصى كمكانٍ مبارك يُخبئ داخله وحوله الطائفة المنصورة الظاهرة على الحق حتى يأتي نصر الله، وهي كذلك، والقرآن الكريم ككتاب مُقدّس تكمن فيه بُشرى النصر في سورة الإسراء التي يسكن فيها وعد الآخرة، للانطلاق نحو إنهاء العلو والإفساد الإسرائيلي الثاني.
وكي تكتمل دائرة النصر، يجب الأخذ بأسباب النصر، استلهاماً من يوم القدس العالمي، فيكون ميلاداً سنوياً متجدداً للأمة، يمنحها القوة والقدرة على إعادة توحيدها حول القدس وفلسطين كقضية مركزية لكلِّ الأمة، ولإعادة توجيه بوصلة الأمة نحو قبلتها الأولى المسجد الأقصى والقدس، كهدف للتحرير ومشروع للنهضة، وإعادة تصويب سلاح الأمة نحو عدوها المركزي والأول، الكيان الصهيوني، كمركز للاستكبار العالمي، وإعادة تجديد الأمل وتفعيل العمل لتحقيق شرطي الإيمان والقوة في جيل وعد الآخرة "عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ" طليعة الأمة نحو التحرير والنهضة والعالمية.
يوم القدس العالمي يعني ديمومة الصراع والاشتباك، واستمرارية الجهاد والمقاومة، حتى تكتمل دائرة النصر بالتقاء الزمان والمكان والقرآن في الوعد الإلهي؛ وعد الآخرة، عندما يتقاطع خطّا التاريخ؛ الصاعد للأمة نحو النور، والهابط بالكيان نحو الظلام، إيذاناً بزوال "إسرائيل" وأفول حضارة الاستكبار العالمي الغربية.