في معرض إحياء المناسبة التي تقام في آخر يوم جمعة من شهر رمضان، ثمة متغير جليّ، هو علاقة أنظمة خليجية مع الكيان المؤقت بشكل مندفع جداً.
من المنطقي جداً أن يُطرح تساؤل في أذهان المهتمين بإنجاح يوم القدس العالمي في دول الخليج مفاده: هل ستكون هذه المناسبة السياسية ذات الطابع المقاوِم هذا العام كما كانت في السنوات الماضية؟
هذا السؤال يُطرح في ظلِّ معركة الوعي الخليجي، والتي تجري بافتعال مقصود من قبل بعض الأنظمة لتحسين صورتها وهي تقيم علاقة مبتذلة وغير مسبوقة -عربياً- مع الكيان الصهيوني؛ فحين تقبض السلطات السعودية على أحد المعتمرين بتهمة أنه "دعا الله في البيت الحرام بتحرير المسجد الأقصى"، وحين تشارك الإمارات باستعراض جوي في ما أسماه الإعلام الإماراتي الرسمي "ذكرى قيام إسرائيل"، وهو يوم النكبة العربية، فحينذاك يكون سؤال: كيف سيكون شكل يوم القدس العالمي ومضمونه؟ سؤالاً منطقياً فعلاً، ليس مع المطبعين في الخليج فحسب، بل مع بعض من يدعون مقاومة التطبيع بشكل مخملي أيضاً، في الوقت الذي تغيرت ظروف العلاقة مع هذا الكيان اللقيط.
شعبية يوم القدس العالمي في الخليج
قبل أن نلج إلى معالجة الشكل المختلف لعلاقة بعض الأنظمة مع الكيان المؤقت، وأيضاً قبل قراءة شكل "مناهضة التطبيع"، لا بدَّ من تأسيس عتبة تصلح لفهم المشهد الخليجي إزاء القضية الفلسطينية، وخصوصاً يوم القدس، فمشاركة مختلف التيارات في هذه المناسبة التي دعا لها مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية الإمام الخميني من منطلق ديني وسياسي، واهتمام التيارات المتباينة بهذا اليوم، يعكسان اهتمامهم بالقضية الفلسطينية بشكل عابر للأطر، وقيام هذه التيارات بإحيائه، بالتعاون مع التيارات الدينية، ينبئ بأنَّ القضية المركزية ما زالت محور القضايا؛ ففي الخليج، يشارك الناصري واليساري والديني سنياً وشيعياً في هذه المناسبة، إلا من توارى لأسباب أمنية معروفة ومفهومة، حتى قبل التطبيع العلني مع الكيان المحتل.
ويسترعي إحياء يوم القدس العالمي اهتمام قطاعات واسعة من المجتمعات الخليجية، لكن تتفاوت طرق الإحياء ودرجات التفاعل بطبيعة الحال؛ ففي الكويت وعمان، يتم الإحياء غالباً في أماكن مغلقة. وفي القطيف والبحرين، يخرج المشاركون في تظاهرات غالباً ما تُقمع. المهم في الأمر أن السنوات الماضية كانت تدل بصورة جلية على أنَّ الاهتمام بالقدس وفلسطين هو الركيزة التي تنطلق منها مشتركات هذه الأمة.
العلاقة الرسمية مع "إسرائيل" ويوم القدس العالمي
في معرض إحياء المناسبة التي تقام في آخر يوم جمعة من شهر رمضان، ثمة متغير جليّ، هو علاقة أنظمة خليجية مع الكيان المؤقت بشكل مندفع جداً، الأمر الَّذي يثير عدة استفهامات: هل ستتعامل الأنظمة مع هذه المناسبة بتطرف وقمع ومصادرة أكثر من السابق؟ وهل يمكن تصوّر إصرار الناس على إقامتها؟ وكيف ستكون شكل الفعاليات مع هذا الاحتدام المحموم في توثيق العلاقة بين الطرفين؟
هذه الاستفهامات تُطرح في ظلِّ تخوف أمني على المشاركين في إحياء المناسبة، وخصوصاً أنْ لا شيء سيوقف الأنظمة عن قمع المعنيين، فلا يوجد فيتو غربي على إسكات مناهضي التطبيع، إضافةً إلى أنَّ الظرف الدولي وما يجري في شرق أوروبا يغطي على أيِّ حدث هنا وهناك.
طبعاً، هناك تاريخ مليء بقمع الكثير من الفعاليات المتعلّقة بفلسطين. وقد قُتل محمد جمعة من البحرين ضمن مسيرة انطلقت في نيسان/أبريل 2002، رداً على استفزازات قام بها السفير الأميركي في البحرين آنذاك رونالد نيومان بشأن تأييده لـ"إسرائيل"، واعتباره أنَّ جنود الاحتلال الذين قضوا بسبب الانتفاضة الفلسطينية يستحقون وقفة حداد في البحرين.
هذا الاستفزاز جعل آلاف البحرينيين يتّجهون إلى السفارة الأميركية، رافعين شعارات تؤيد الانتفاضة الفلسطينية ومقاومتها ورموزها، لكنّ الشرطة البحرينية قمعتهم، وقتلت محمد جمعة، وجرحت العشرات.
هذا الحدث وقع قبل 20 عاماً، ولكنه سيكون مضاعفاً الآن -لو تكرر- مع دخول الأمن الإسرائيلي في مفاصل التركيبة الأمنية لكلٍّ من البحرين والإمارات، ما يشي بأنَّ الأمر ينسحب أيضاً على طريقة التعاطي مع يوم القدس العالمي، والذي يُتوقع أن تُمنع إقامته، وأن يُحاصر المهتمون به بصورة أكثر من السابق، لكي يمرّ آخر جمعة من شهر رمضان كما أيّ جمعة أخرى. ومن نافلة القول إن السلطة البحرينية تقمع العديد من المسيرات المتعلقة بفلسطين، حتى داخل القرى.
المناهضون المخمليون للتطبيع
في سياق مناهضة التّطبيع عموماً، وما يترجمه يوم القدس العالمي خصوصاً، ما دور المؤسسات والأشخاص الذين حملوا لواء مناهضة التطبيع –مشكورين- منذ اتفاق "أوسلو"؟
منذ ما سُمي بـ"معاهدة السلام" بين "إسرائيل" والسلطة الفلسطينية، تحرك عدد من السياسيين وغير السياسيين، أبرزهم من اليسار العربي، لتأكيد أحقية القضية الفلسطينية، وشددوا على مناهضة أي تطبيع مع الكيان الصهيوني.
ولأنَّ الكثير من الدول العربية وكل الدول الخليجية لم تطبّع حينها، كان دور هؤلاء يقتصر على تبيان المظلومية الفلسطينية وإدانة "إسرائيل"، وكانت معظم فعالياتهم تُقام في جو مريح لا يشوبه خدش أمني أو مناكفة سياسية، لكن مع التطورات الجيوسياسية، وعلاقة الأنظمة فعلياً بالكيان المحتل، هل سيبقى دور هذه المؤسسات هو وضع الكوفية الفلسطينية ورفع شارة النصر، والإقبال على "بوفيه" فاخر عند انتهاء الفعالية، في حين ترفع السفارات الإسرائيلية علم الاحتلال في عواصم خليجية غرقت أنظمتها في قضايا كبيرة ومعقّدة بسبب تلك العلاقة، في الوقت الذي كانت بمنأى وغنى عنها، والمستفيد من هذا الغرق هو كيان الاحتلال لا سواه!
إذا كان الزمن الواقع بين الستينيات والتسعينيات زمناً جميلاً في الحس العربي الرافض لنسيان القضية الفلسطينية، يجمع على إثره المتصدون للتطبيع -في الخليج- الأموال وغيرها لإرسالها إلى المقاومة الفلسطينية، فإن هذا الحسّ تماماً هو ما ينبغي أن يحييه الخليجيون.
صحيح أنَّ ثمة تشدداً دولياً على التحويلات المالية، وصحيح أيضاً أن أميركا وسعت مفهوم الإرهاب كثيراً خلال العقدين الماضيين، لوصف أي نشاط يخالف مصالحها بـ"العمل الإرهابي"، لتتم معاقبته مباشرة وتجميد موارده، إلا أنَّ ذلك لا يمنع تنشيط الحس الذي يحرص على دعم المقاومة الفلسطينية بشتى صور الدعم، بل إنَّ ذلك التشدد الدولي ينبغي أن يدفعنا إلى كسره، لأنَّ أحد أهم أهدافه هو احتواء المقاومة في فلسطين ولبنان، وهو ما يجب أن يفشل بأي طريقة.