فور انتهاء معركة "سيف القدس" العام الماضي، كتبتُ مقالاً بعنوان: "هل ستكون سيف القدس المعركة ما قبل الأخيرة؟"، وكانت آخر فقراته: "هذه النتيجة ستُعجّل الإعداد لحرب وعد الآخرة الفاصلة، فبعد أنْ صدق الله العظيم وعده بمجيء اليهود جماعات مهاجرة من كل أنحاء العالم إلى فلسطين، وبعد أنْ بعث الله تعالى جيل النصر ممن يمتلكون شرطي الإيمان والقوة، لم يبقَ إلا تحقيق وعد الآخرة، حيث المعركة الكبرى الفاصلة، فهل ستكون معركة سيف القدس الحرب ما قبل الأخيرة؟".
وقد اتفق خطاب المقاومة بعد معركة "سيف القدس" مع هذه الرؤية المتفائلة إلى المستقبل، وبرز ذلك واضحاً في خطابات قادة محور المقاومة في يوم القدس العالمي الأخير بعد عام من معركة "سيف القدس".
أذكر أنَّ مرشد الثورة الإسلامية في إيران علي خامنئي صرّح في العام 2015م أنَّ "إسرائيل" لن تكون موجودة في ربع القرن القادم، وأكَّد ذلك في يوم القدس العالمي العام الماضي بقوله: "إنَّ الخط البياني الانحداري باتجاه زوال الكيان الصهيوني بدأ ولن يتوقّف"، وأكد هذا المعنى في يوم القدس العالمي الأخير بعد معركة "سيف القدس".
واعتبر رئيس الجمهورية الإسلامية في إيران إبراهيم رئيسي في اليوم نفسه أنَّ "الأمور تسير باتجاه زوال الكيان الصهيوني وحتمية تحرير القدس طبقاً للوعد الإلهي"، وقال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله: "إنْ شاء الله، هذا الجيل وهذه الأجيال ستُصلّي في القدس... قريباً جداً"، وقال الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين الأستاذ المجاهد زياد النخالة: "إنَّ قوى المقاومة تزداد يقيناً بالنصر"، وقال قائد حركة حماس في قطاع غزة الأستاذ المجاهد يحيى السنوار في يوم القدس العالمي تحت عنوان "القدس هي المحور": "على الجميع التهيؤ لمعركة كبرى من أجل الأقصى... معركة زوال إسرائيل".
يتفق خطاب المقاومة المتفائل بقرب زوال "إسرائيل" مع منطق القرآن الكريم في سورة الحشر: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ}، في إشارة إلى سببين تاريخيين لتدمير أي كيان يهودي، هما السبب الداخلي والسبب الخارجي، وهو ما كتب عنه صاحب موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية" المفكر عبد الوهاب المسيري، موضحاً السبب الداخلي بأن "إسرائيل تتفكك من الداخل بسبب تناقضاتها الداخلية، وتأكل قيمها الصهيونية، وعدم يقين سكانها بمستقبلهم، وفشلهم في تهجير كل الفلسطينيين"، وبأن السبب الخارجي يتمثّل بالمقاومة "ودورها في تعجيل نهاية إسرائيل... جرثومة النهاية لدولة إسرائيل".
وأكد ذلك الكثير من نخبة الصهاينة، منهم المفكر أمنون روبنشتاين، بقوله إن "الكيان الإسرائيلي لا يمكنه البقاء مطلقاً بسبب نوعين من التهديد: خارجي... وداخلي، يتمثل بالفساد وتأكل منظومة القيم الصهيونية". ورأى السياسي الإسرائيلي أبرهام بورغ "أنَّ إسرائيل فيتو صهيوني يحمل أسباب زواله في ذاته"، وركز المؤرخ بيني موريس على العامل الديموغرافي لزوال "إسرائيل"، وغيرهم كثير من مؤسسات ومفكرين غربيين لديهم رؤية استشرافية لزوال الكيان الصهيوني.
رغم هذا اليقين بقرب النصر وتحقيق وعد الآخرة، لا ينبغي الركون إلى ذلك وتحويل خطاب المقاومة إلى مجرد أمنيات بالنصر، فنتجاهل سُنن التاريخ التي لا تُحابي أحداً، مؤمناً كان أو كافراً، فمن يأخذ بأسباب النصر ينصره الله، ومن يتركها يستبدله الله، فالنصر في الدنيا والفلاح في الآخرة ليس بأماني النفس ورغباتها المُجرّدة من العمل: "لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ"، والأخذ بالأسباب أو العزيمة قاعدة قرآنية لإنجاز أي هدف قبل التوكل على الله: "فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ"، وقاعدة نبوية قبل التوكل على الله: "اعقلها وتوكل".
ومن أهم أسباب النصر إعداد القوة: "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ"... ومن دون ذلك كله، سيكون الأمر تكراراً لتجارب بائسة سابقة، أهمها الخطاب الإعلامي الناصري قبل النكسة في العام 1967م، عندما كان مدير إذاعة صوت العرب أحمد سعيد يكرر جملته الشهيرة: "هنيئاً لك يا سمك البحر"، على أساس أنّه سيأكل أجساد الصهاينة الهاربين من فلسطين، في دلالة على قرب تدمير "إسرائيل" وتحرير فلسطين، من دون وجود مشروع حقيقي لتحرير فلسطين.
مفهوما أماني النصر ومشروع التحرير مختلفان، وقد يكونان متناقضين، فأماني النصر هي ركون إلى رغبات النفس وانتظار الوعد، من دون مُعطيات من الواقع وتراكم من العمل ورصيد من الإنجازات. أمّا مشروع التحرير، فهو أخذ بالأسباب وإعمال للجهد، بوجود مُعطيات من الواقع وتراكم من العمل ورصيد من الإنجازات.
أماني النصر تركن إلى إيمان يؤدي إلى التواكل أو التهوّر، ووعي يؤدي إلى الجمود أو التسرّع، وقوة منفصلة عن الإيمان والوعي، وصبر يقود إلى الجزع واليأس أو الوهم والخداع... أمّا مشروع التحرير، فإيمان مع يقين يضع عجلات الفعل البشري على مسار قضبان قطار القدر الإلهي المسافر نحو محطة وعد الآخرة من دون تواكل أو تهور، ووعي مع بصيرة يُخرج العمل الإنساني من قاعة الانتظار على رصيف هامش التاريخ من دون القفز في فراغ التاريخ، وقوة تكمل معادلة الإيمان والوعي كشرط للنصر، بما تحمله من معاني الفاعلية والتأثير، وصبر يحمينا من الجزع، ويقين من الوهم يثبتنا في القتال، ووحدة بوصلتها فلسطين وقبلتها القدس، تجمع كل المؤمنين بمشروع المقاومة والتحرير، متجاوزة كل أنظمة الانبطاح والتطبيع، وتيارات الفتنة والتكفير، وجماعات الإلهاء والترويض.
مشروع المقاومة والتحرير السائر نحو وعد الآخرة يتميز عن الأماني بنهجه الواضح: "كلام أقل وعمل أكثر"، وخصوصاً أنه يواجه المشروع الصهيوني المدجج بالعلم والتكنولوجيا والإمكانيات والسلاح، ويرتكز على مشروع غربي أكبر يحمل كل عوامل القوة والتقدم، وهو ما يحتاج إلى مزيدٍ من وضوح الرؤية والمشروع، وسطوع الهدف والوسيلة، وقوة التخطيط والإعداد، وفاعلية العمل والتنفيذ، كما يحتاج إلى التسلح بالمعرفة والعلم كتكليف إلهي، وهو مهمة تاريخية وضرورة واقعية... ليكون للشعب الفلسطيني والأمة الإسلامية مشروع النصر والتحرير، بعيداً عن أماني النصر والتحرير... تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني، وتحرير الأمة من الاستعمار الأميركي... حتى يأتي نصر الله ووعد الآخرة ونحن نجاهد ونقاوم... نقاوم في فلسطين بجبهة تحرير تكون طليعة للشعب، ونقاوم من خارج فلسطين بجبهة تحرير محورها المقاومة، وبوصلتها فلسطين، وقبلتها القدس، تكون طليعة الأمة.. حتى إنجاز مشروع التحرير وتحقيق وعد الآخرة.