تأهبت أم عبيدة للخروج من المنزل، فحملت حقيبتها متجهة صوب الباب، وما أن وضعت قدمها خارج عتبة الباب، حتى انتفض نجلها الصغير عبيدة قائلًا: "أنا رجل البيت، وين يا ماما؟" توقفت والدته التي اعتصر قلبها الحزن والألم من جهة، والفخر والعزة من جهة أخرى، فابتلعت ريقها وهي تقول بصوت مقهور: "أكيد يا ماما أنت رجل البيت، أنا طالعة لزيارة عائلية، سأعود سريعًا"، هدأ قلب الطفل الصغير، وعاد يمارس طفولته: "بدي مصروفي!".
استدارت "أم عبيدة" إلى نجلها الصغير فوجدت في عينيه قوة كالنسر تشبه تمامًا نظرات والده قائد لواء الشمال في سرايا القدس الذراع العسكري لحركة الجهاد الإسلامي الشهيد حسام أبو هربيد الذي نمرّ في الذكرى الأولى لاغتياله بطائرات الاحتلال الإسرائيلي، ولأن حسام الإنسان لم يغادر البيت مطلقًا فقد قالت أم عبيدة لطفلها: "مصروفك في بنطلون أبوك بالخزانة"، فَرِح الطفل كثيرًا وذهب إلى الغرفة كالحمام الطائر، أخذ مصروفه وخرج من البيت مبتسمًا.
كثيرةٌ هي المواقف المتجذرة في ذاكرة "أم عبيدة" والتي جمعتها مع القائد الإنسان حسام أبو هربيد، فرغم مرور عام على ذكرى اغتياله؛ إلا أن طيفه لا زال يعيش في البيت، فزوجتاه وأطفاله التسعة يستذكرونه في كل عملٍ داخل المنزل، فتقول "أم عبيدة" لـ"شمس نيوز": "إن أبا عبيدة لم يغب ثانية واحدة في حياتنا اليومية؛ فأطفاله يقلدونه على مائدة الطعام، والملابس، وطريقة الحديث، وتمسكهم بوصاياه؛ كـ "الاستحمام، وارتداء الجلابية، وقص الأظافر، والذهاب مبكرًا إلى المسجد لأداء فريضة صلاة الجمعة".
تتوقف أم عبيدة قليلًا عن الحديث؛ لتمسح دمعتها، ثم تأخذ شهيقًا لتملأ رئتيها بالهواء النقي، وتطلق زفيرًا يساعدها في استرجاع قوة صوتها، مستذكرة أيام رمضان وعيد الفطر وتقول: "مر علينا عيد الفطر بشكل مؤلم جدًا، دائمًا كان يعود أبو عبيدة من صلاة العيد يُسلم على بناته، ويعطيهم العيدية"؛ لكن في العيد الماضي كانت أم عبيدة تحرص على إعطاء بناتها العيدية مستخدمة "بنطلون أبو عبيدة" لتبقى روحه ورائحته العطرة وذكراه حية متجذرة في قلوب أبنائه.
قبل يومٍ من العيد خرج الطفل عبيدة (10 أعوام) حاملًا صورة والده الشهيد وقلبه مشتاقٌ إلى احتضانه؛ ليزين باب المنزل بصورة والده، وعندما انتهى من تعليقها اختفى عبيدة داخل المنزل لدقائق معدودة، ثم عاد حاملًا صورة البندقية التي يعشق أن يحملها عندما يكبر؛ ليأخذ بثأر والده.
لم يكن جهاده ضد العدو الإسرائيلي "ليل نهار" يمنعه من ممارسة حياته الطبيعية مع أطفاله وزوجتيه، فقد كان أبو عبيدة يجمع الأطفال، ويشتري لهم الهدايا والحاجيات؛ ليرسم على شفاههم الابتسامة، وفي المساء يحصل على قسط من الراحة ليشارك في جميع المناسبات العائلية من أفراح أو أحزان.
تتوقف أم عبيدة لثوانٍ معدودة عن الحديث حتى تهدأ جمرة الاشتياق التي اشتعلت في قلبها؛ لتعود إلى شريط ذكرياتها، وتروي عن حسام الإنسان وتقول: "لا يترك مناسبة للجيران إلا ويشارك فيها، الجميع يشتاق إليه ويحبه جدًا"، يستوقفها هنا مشهد يتكرر يوميًا في الطرقات كلما خرجت "أم عبيدة" من المنزل سمعت الكثير من الناس يترحمون على الشهيد حسام، ويتضرعون إلى الله تعالى بأن يدخله الفردوس مع الشهداء والصادقين.
حسام بين أبنائه المجاهدين
علامات التعب والإرهاق لا تفارق "أبو عبيدة"؛ كلما اختفت خيوط الشمس الذهبية وعاد إلى المنزل كانت عيناه ترويان قصة مؤلمة عن الفقراء الذين يلتقي بهم في الطرقات، فمنهم من لا يجد قوت يومه، ومنهم من لا يتمكن من توفير الحليب لأطفاله؛ فهو يشعر بآلامهم، ومشاكلهم، وهمومهم اليومية، ويحاول قدر المستطاع توفير ما يملك إلى الفقراء؛ لمساعدتهم وحمايتهم ورسم البسمة على وجوههم.
لم يكن حسام ذا قبضة حديدية على جنوده، فقد شاهدت بأم عيني العلاقة القوية التي تجمع حسام وأبنائه المجاهدين، كانوا دومًا مبتسمين، متماسكين بشكل كبير، عندما يشتكي أحد الجنود يُسارع أبو عبيدة لتقديم ما يلزمه من أموال أو حتى زيارة ترفع من معنوياته.
تعود أم عبيدة في شريط ذكرياتها إلى عام 2017 عندما قُطع راتب حسام من السلطة الفلسطينية، مشيرة إلى أنهم عاشوا ظروفًا اقتصادية صعبة جدًا؛ لكن أبا عبيدة كان دائمًا يدعوني إلى أن أحمد الله عز وجل، ويذكرني بما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وأسيادنا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما عندما ربطوا بطونهم بالحجارة، قائلة: "كان قنوعًا جدًا ويرضى بما قسمه الله عز وجل".
وصيته الأخيرة
يدرك "أبو عبيدة" تمامًا بأن جثمانه الطاهر سيصلني في يوم من الأيام محمولًا على الاكتاف؛ لذلك كان دومًا يوصيني بأن أكون قوية، وأتمسك بالصبر وألا أصرخ، يقول لي: "ابكِي؛ فالبكاء أمر لا بد منه؛ لكن لا تصرخي أو تضربي رأسك بل أطلقي الرصاص، وزغردي في جنازتي".
كنت أشعر بالخوف عندما يجلس أمامي ويرفع يده إلى الله تعالى متضرعًا يقول: "اللهم قطعني قد ما تحبني"، اهتز جسد أم عبيدة وهي تنظر إليه بحب وعشق وتقول والدمع يتسلل من عينيها: "لقد تحقق حلمه وتناثر جسده".
في السابع عشر من مايو 2021 خفق قلب أم عبيدة ودوى الخبر في أرجاء قطاع غزة: "حسام استشهد!، نعم حسام القائد الإنسان قد استشهد في قصف إسرائيلي غادر"، هرعت أم عبيدة إلى مستشفى الأندونيسي تتفقد مهجة قلبها لتراه مسجى بدمائه الطاهرة، كانت دماؤه ساخنة كالنار الملتهبة تتناثر في المكان رغم ثلاث ساعات على استشهاده.
وصلت دماء القائد حسام إلى وجه أم عبيدة، وتراشقت على ملابسها، وتناثرت على جموع الناس الذين جاءوا يركضون تحت القصف والدمار ورائحة الموت التي تحوم في بيت حانون؛ للمشاركة في تشييع جثمانه الطاهر ليوارى الثرى.
أبو عبيدة لم يمت
بصوتها القوي وعزيمتها الفولاذية التي تمتلكها أم عبيدة بعد توجيهات من زوجها القائد حسام، فقد توعدت أم عبيدة، رئيس حكومة الاحتلال حينها بنيامين نتنياهو قائلة: "عندما تأتي الفرصة لن أقصر، وسأقدم نفسي فداءً لله والوطن، وثأرًا لدماء زوجي القائد أبو عبيدة".
في تلك اللحظة استذكرت أم عبيدة أبطال الساعة التاسعة القادة الميدانيين (سامح المملوك أبو فهيم- محمد أبو العطا – وكمال قريقع) وجميع قادة المقاومة، مشيرة إلى أن كل صاروخ ينطلق من قطاع غزة كان يعُطيني الأمل بأن دماء زوجي لم تذهب هدرًا.
ووجهت أم عبيدة رسالة للمحتل قائلة: "عندما استشهد البهاء خرج الحسام، وعندما استشهد حسام سيخرج الآلاف من الأبطال والمجاهدين الذين يثأرون لدمائهم، مؤكدة أن نجلها عبيدة سيحمل الراية، ويأخذ بثأر والده.