اتفاق المصالحة الهام الذي أنجزته زيارة وفد منظمة التحرير إلى قطاع غزة مؤخرا يسهم بقوة في تعزيز فرص التلاحم والتوافق الفلسطيني المنشود خلال المرحلة القادمة، ويعيد التذكير بجملة من الأصول والمحددات التي ينبغي أن تنشغل الساحة الفلسطينية بتحقيقها وتعمل في ضوئها إبان المرحلتين: الراهنة والقادمة.
(1)
ينبغي أن تنشغل الساحة الفلسطينية اليوم بمساع حقيقية ترسي أسس ومعالم مصالحة وطنية شاملة، وتبدد الآثار الغائرة التي حاقت بالعلاقات الداخلية، وتوفر ضمانات أصيلة وملموسة للخروج من نفق التكلس والجمود وانعدام الثقة والشعور بالضياع والانفتاح على المجهول، الذي يهيمن على الوضع الفلسطيني العام حاليا. وكي لا يكون الأمر خبط عشواء، أو ضربا من التسكين المؤقت لتفاعلات الأزمة، فإن المصالحة الوطنية يفترض أن تبنى على أصول وثوابت قاطعة، وأن ينتظم مسارها في إطار محددات واضحة، تشكل ميثاق شرف وطني يلتزم به الكل الوطني الفلسطيني، سلطة وفصائل، ويتعهدون بإنفاذه والوفاء بمتطلباته واستحقاقاته.
أولى بنود هذا الميثاق تنص على تحريم اللجوء إلى القوة أو السلاح، أو استدعائه وتحكيمه لحسم الخلافات أو الإشكالات الداخلية مهما كانت الحيثيات والمبررات، وينسحب ذلك على السلطة كما بقية القوى والفصائل دون استثناء. فلغة الحوار ونهج التعقل والانفتاح هما الضمانة الوحيدة الكفيلة بتذليل كافة العوائق، وفك الاشتباك حيال تضارب الأجندة والسياسات التي تعتمل على الساحة الفلسطينية، وعدم الانزلاق إلى مستنقع الفتنة والاقتتال.
ولن يتأتى ذلك إلا بتحول نوعي في آفاق العقلية الفلسطينية الحاكمة لجهة القناعة الاعتقادية بأن المرحلة هي مرحلة تحرر وطني، وأن قوى المقاومة وأبناءها شركاء في بناء الوطن وتقرير مصيره وتحمل مسؤوليات الدفاع عنه، ما يستوجب دعمها ومؤازرتها، وتوفير الغطاء السياسي والشرعية القانونية لكفاحها العادل.
ثاني تلك البنود يتعلق بسلامة التعبئة الداخلية لفصائل العمل الوطني والإسلامي، وضرورة نقائها من غلواء الشحن والاستعداء، وتطرف الفكر والموقف إزاء الآخر الوطني.
فلا يجوز أن تنتعش مفاهيم الإقصاء ومشاعر الحقد والبغضاء، وتذوي مفاهيم الإخاء والتعاون والعمل المشترك، في سياق التعبئة الداخلية لبعض الفصائل الفلسطينية، فيما المعاناة والهم اليومي وجحيم الاحتلال تطحن الفلسطينيين دون استثناء.
والواقع أن التعبئة الداخلية المشوهة كانت أحد أهم الأسباب التي خلّفت الانقسام الكارثي الراهن، لذا فإن بث وتعميم ثقافة التسامح والانفتاح على الصعيد الفصائلي الداخلي يشكل أولوية وطنية فلسطينية ملحة وواجبا لا يحتمل المماطلة أو التأجيل، توطئة لنقل التجربة إلى ميدانها الجماهيري الأوسع، وتعميمها على كافة شرائح ومكونات الشعب الفلسطيني.
ثالث تلك البنود يعنى بنبذ الأثرة والاستفراد واحتكار القرار والمصير والمقدرات الفلسطينية. فلا ريب أن الهيمنة والاستئثار، وتهميش وتجاهل الآخرين وإدارة الظهر لهم، واللعب بشكل منفرد بخيوط السياسة والمال والموارد، تنبت مشاعر سلبية، وتلوث العلاقات والمناخات الوطنية، وتراكم الإحباط والاحتقان، ما أسهم في إنتاج مسيرة الانقسام الذي ندفع فاتورته الثقيلة حاليا.
ومن هنا فلا مندوحة عن الإيمان بثقافة الشراكة الوطنية، والتداول السلمي للسلطة، والالتزام بكل ما يتمخض عن صندوق الاقتراع، وتأسيس العلاقات الوطنية الفلسطينية على قواعد راسخة من الشورى والوئام والتفاهم المشترك، لاستعادة الثقة المفقودة وطنيا، وترميم العلاقات المتدهورة بين السلطة وفصائل المقاومة، وإعادة صياغة الواقع الفلسطيني على أسس ديمقراطية سليمة.
رابع تلك البنود يتمحور حول احترام الاتفاقات والتفاهمات الوطنية المعقودة، وعدم إخضاعها للتقلبات والأهواء الشخصية والفصائلية. فلا يجوز تحشيد الكل الوطني الفلسطيني خلف أجندة وطنية جامعة، وإبرام اتفاقات أو تفاهمات مشتركة، ومن ثم التنكر لبعضها أو التسويف في إنجازه، والاستمساك بما يتوافق مع المصلحة الفئوية منها.
خامس تلك البنود يتصل بإشكالية وحدانية السلطة ومرجعيتها الوحيدة للشأن الفلسطيني قاطبة. فالواضح أن هذه القضية، وما يرافقها من جدل واتهامات قد عكرت الفضاء الفلسطيني على الدوام، وتسببت أحيانا كثيرة في تسميم العلاقات المتبادلة، ونقلها أطوارا شتى إلى ممارسة القهر أو العنف الميداني.
لذا فإن إدراك خصوصية المقاومة ومرحلة التحرر الوطني التي نعايشها، والالتقاء على تفاهمات مشتركة بين السلطة والمقاومة، كفيل بقطع دابر هذه الإشكالية، وتهدئة مخاوف الطرفين على السواء.
(2)
لا شك أن الشراكة السياسية تعالج جزءا من المشهد الوطني الفلسطيني، إلا أن الشراكة الوطنية تضع المجتمع الفلسطيني بأسره في قلب دائرة المعالجة والاستهداف.
الشراكة السياسية تعنى بترميم وتطوير العلاقات بين القوى والفصائل السياسية في إطار النظام السياسي الفلسطيني، بينما تغرس الشراكة الوطنية جذورها القوية في أعماق المجتمع ونسيجه الحيوي، وتجعل من النخبة السياسية والثقافية والاقتصادية والمجتمعية، إلى جانب المواطن، شركاء جنبا إلى جنب في التكاتف الوثيق نحو تحمل مسؤولية وهموم الوطن والقضية.
المطروح حاليا في إطار ملفات المصالحة الداخلية لا يتعدى شراكة سياسية في إطار مجتزأ على المستوى النظري، فيما يتضاءل كثيرا حيز وحظوظ الشراكة لدى إنزالها منزل التطبيق على المستوى العملي.
ثقافة الشراكة الوطنية غائبة تماما هذه الأيام عن التفكير الفصائلي، وما يتم تداوله عن استدعاء قيم ومفاهيم الشراكة السياسية يراوح، فقط، في إطار الشعار المجرد لأغراض الاستهلاك الداخلي، والنتيجة أننا أمام واقع مؤسف تغلب عليه ثقافة الهيمنة والاستحواذ والرغبة في إقصاء الآخر.
تجربة السنوات الماضية بما حوته من مآس وآلام ومصائب في ظل الانقسام لم تكن كافية لإعادة صياغة التفكير الفصائلي باتجاه موجبات الشراكة الحقّة، والاستقامة على رؤية وطنية شاملة تعلي المشترك الوطني العام على الاعتبار الفصائلي الضيق، وتنزل عند حدود المصلحة الوطنية العليا أيا كانت الكلفة أو الأثمان المترتبة عليها.
كم من الوقت نحتاج لتعبيد طريق الشراكة الوطنية التي تشكل القاعدة الصلبة والأساس المتين في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وتحدياته الجسام؟ وكم من الوقت نحتاج كي نتعلم من أخطائنا وخطايانا، ونأخذ العبرة من تجارب ومصائر الآخرين؟
بإمكاننا أن نجعل التوافق على تشكيل حكومة التوافق الوطني المنشودة بداية الطريق إلى الشراكة الوطنية، وبإمكاننا -أيضا- أن نجعل منها البداية والنهاية على السواء.
فلسطين ليست حكرا على فصيل بعينه، فالوطن وطن الجميع، ولا مناص من الاعتراف بأن النهج والسياسة الفصائلية الفلسطينية الحالية تضر الوطن وقضيته العادلة أشد الضرر، وتباعد بينه وبين تلمّس آفاق النصر والحرية، وتعيده سنوات طويلة إلى الخلف.
مَنْ يقرّر في شأن الوطن وقضاياه الكبرى، ومَنْ يبتّ في المصير الوطني، يجب أن يكون الشعب الفلسطيني بكافة شرائحه في الداخل والخارج أولا، ولا قيمة لأي ادعاء أو محاولة للتزلف إلى الشعب بشعار جميل أو ألفاظ براقة ليس لها من الواقع نصيب.
إن الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج ليس مجموعة رعاع كما يتصور البعض، بل هو توليفة من الشرائح والمؤسسات والشخصيات ذوي القدرة والفهم والكفاءة، وهي تركيبة واسعة قادرة على حشد الدعم لأي قرار هام أو سياسة كبرى، وتبنيها والدفاع عنها من الألف إلى الياء.
باختصار.. حاجتنا إلى الشراكة الوطنية كحاجتنا إلى الماء والهواء، ولن نتنسم عبير النصر والحرية ما دامت الشراكة خارج أجنداتنا الملحة وأولوياتنا الكبرى.
(3)
المراجعة السليمة والتقويم الراشد للحال الفلسطيني الراهن يشكل الخطوة الأهم وطوق الإنقاذ للخروج من عصف الأزمة الفلسطينية الداخلية وتجلياتها الكبرى.
المراجعة ليس عيبا أو تعبيرا عن ضعف، بل ضرورة ماسة وشرط لازم لتصحيح الحال وتصويب المسار، والعمل على إنقاذ الوطن قبل فوات الأوان.
إن تجربة السنوات الماضية منذ إجراء الانتخابات التشريعية 2006 وحتى اليوم، وما رافقها من حصار ومخططات ومآس ونكبات، بحق شعبنا وقضيتنا ومشروعنا الوطني التحرري، كفيلة بإحداث مراجعات عميقة لكل حيثيات وتفاصيل المرحلة السابقة واستخلاص كل ما يمكن استخلاصه منها، مواعظَ وعِبَرا، بما يقودنا إلى إعادة بلورة رؤى ومقاربات وطنية جديدة تعمد إلى محاولة التقليل من خسائر المرحلة التي هدّت البنيان وزلزلت الأركان، وإعادة الاعتبار لمسيرة التحرر الوطني الفلسطيني التي تشوهت كثيرا تحت مطارق السلطة واستحقاقاتها البائسة.
ما عايشه الفلسطينيون، لحظة بلحظة، طيلة السنوات الماضية المفجعة بكل المقاييس، يقطع بأن تأسيس السلطة تحت الاحتلال شكل خطيئة وطنية كبرى، ويقطع -أيضا- بأن إجراء الانتخابات تحت الاحتلال يعدّ خطيئة وطنية، ويقطع -أيضا- بأن استمرار التعاطي المفتوح مع إفرازات ومخرجات أوسلو، بعيدا عن إعمال رؤية وطنية جديدة ذات طابع متدرج للخروج الآمن من الأزمة الراهنة، لن يجلب سوى مزيد من المآسي والويلات والمصائب لشعبنا المكلوم وقضيته الوطنية العادلة.
في المقابل فإن إعادة هيكلة النظام السياسي الفلسطيني والتكوين والبناء الإداري للسلطة الفلسطينية، تشكل حاجة أساسية تستدعي المراجعة الملحة ولا تقل أهمية عما سواها من مراجعات.
حين تأسس النظام السياسي الفلسطيني بهياكله الإدارية المختلفة عقب نشأة السلطة كان يحاكي مرحلة زمنية محدودة سادتها الأوهام، وسرعان ما فقد حيويته الوطنية ودوره الوظيفي إثر التنكر الإسرائيلي للاتفاقيات الموقعة، وانسداد الآفاق بشكل كامل أمام إمكانية استرجاع الحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية عبر خيار المفاوضات.
وهكذا، فإن النظام السياسي الفلسطيني بمكوناته وملحقاته المختلفة أضحى فاقدا لدوره الوطني والوظيفي، وبات من الضروري تماما إعادة هيكلته وطنيا وصياغته إداريا بما يتناسب مع المرحلة الحالية التي شبع فيها خيار المفاوضات فشلا، وأضحت فيها السلطة، دورا ونظاما، رهنا للمال السياسي المسموم.
حاجة الفلسطينيين إلى رؤى ومقاربات حيوية يتم إنفاذها بشكل حكيم ومتدرج، بهدف الخروج من نفق الاستسلام لإرادة الغير في إطار أوسلو وأخواتها إلى الفضاء الوطني الرحب المنفتح على المتاح من أشكال المقاومة والصمود، كمثل حاجتهم إلى الماء والهواء.
(4)
التحديات والقضايا الخلافية التي تختزنها تفاصيل المصالحة أوضح من أن يتم إخفاؤها أو التغطية عليها، إلا أن توفر الإرادة وحسن النية وبناء الثقة المتبادل من شأنه تعزيز مسيرة القواسم المشتركة بين حركتي حماس وفتح بشكل خاص، وفصائل العمل الوطني والإسلامي بشكل عام. إن شاء الفرقاء الفلسطينيون مصلحة الوطن والمواطن الفلسطيني، فإن عليهم تنحية موطن الجدل والقضايا الخلافية جانبا، والتركيز على دعم وتقوية المشتركات الوطنية بما يفضي إلى النزول على برنامج وطني مشترك قادر على التخفيف من حدة الأزمة الداخلية، ومواجهة الاحتلال ومخططاته العنصرية في آن.
ما يأمله ويريده ويحثّ عليه الشعب الفلسطيني ليس مجرد الكلام النظري والشعارات المكرورة، بل خطوات عملية ترسي اللبنة الأولى في مضمار ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي، وتنهي مسيرة الانقسام الكارثي الذي أرهق البلاد والعباد.
لم يعد هناك في الوقت متسع، ولم تعد القضية الفلسطينية في وارد احتمال مزيد من التشظي والانقسام واللهو العابث بالحاضر والمستقبل الوطني، ولم يعد الشعب الفلسطيني قادرا على احتمال مزيد من التأخير والتسويف الذي يأكل من حياتهم ومقدراتهم ومصالحهم، ويعمق فيهم مشاعر الألم وموجات المعاناة ونزعات الاغتراب الوطني.
قدرة الفلسطينيين على بناء برنامج وطني مشترك على أساس مرحلي ليست صعبة، بل إنها ممكنة التحقق، وخصوصا في ظل التوافق الفصائلي الهام على أهمية إنفاذ المقاومة الشعبية لمواجهة الاحتلال خلال المرحلة المقبلة.
بناء البرنامج المرحلي المشترك يشكل أولى خطوات مواجهة التحديات، والتوطئة الأهم التي تقود إلى بناء إستراتيجية وطنية شاملة لإدارة الوضع الفلسطيني ككل مستقبلا.
المصالحة المطروحة سطر بسيط في صفحة الحل الوطني الفلسطيني في إطار إدارة الصراع مع الاحتلال، وما يحتاجه الفلسطينيون اليوم رؤية وطنية إستراتيجية لإنقاذ الوطن والشعب والقضية من براثن الفوضى والعبث والارتجال الذي أورد القضية موارد التهلكة والخسران طيلة المرحلة الماضية.
لا عذر لأحد في الالتحاق بقطار الإصلاح وركب الإنقاذ الوطني الفلسطيني، فلننقذ الوطن والقضية قبل فوات الأوان.