كتب: د. وليد القُططي
قبل 3 سنوات، في مثل هذه الأيام، بتاريخ 25 أيار/مايو، رحل الباحث والمؤرخ الفلسطيني الدكتور سميح حمودة، بعد عمرٍ حافل بالعطاء الفكري والنضالي ما بين العامين 1960 – 2019م، هي سنوات عمره القصيرة والمفعمة بالحيوية والفاعلية. وقد نعته حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، ووصفته بالمجاهد الأكاديمي والمفكر الفلسطيني، وأحد روّاد الجيل الأول في الحركة، الذين أسهموا في تعميق الوعي بنهج المقاومة والقيم الوطنية.
وقد كان لكاتب هذه السطور فرصة معرفته ولقائه منذ بداية مشواره الفكري والنضالي بحضرة المفكر الشهيد فتحي الشقاقي، الذي كان بمنزلة قبلة فكرية للشباب الفلسطيني الباحث عن حل لإشكالية الفصام بين الإسلام وفلسطين في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، فكان سميح حمودة أحد هؤلاء الشباب المتميزين، فالتقط من الشقاقي الأطروحة الفكرية التي جمعت بين الإسلام وفلسطين والجهاد، واكتشف معادلة الإيمان والوعي والثورة في تجربة الشيخ الشهيد عز الدين القسام بعيون المفكر الشهيد فتحي الشقاقي، وترجمها في كتابه عن حياة القسام وجهاده "الوعي والثورة" في العام 1985م.
بعد كتاب "الوعي والثورة"، واصل سميح حمودة مشواره الأكاديمي والنضالي، وكانت الولايات المتحدة الأميركية إحدى محطات هذا المشوار برفقة زميليه الدكتور رمضان شلح والدكتور سامي العريان، وكان يجمعهم الانتماء إلى الإسلام وفلسطين والجهاد، وتربطهم أطروحة الإيمان والوعي والثورة.
وقد ظل القسام فكرة وجهاداً في وعيه عندما أسس مع إخوانه مسجد عز الدين القسام في مدينة تامبا في ولاية فلوريدا الأميركية، ودفع ثمن انتمائه وأطروحته سجناً لأكثر من 4 سنوات في أميركا، وحرماناً من مناقشة رسالة الدكتوراه في جامعات أميركا، وأخيراً إبعاداً من أميركا.
وقد قدّم الدكتور سامي العريان شهادته في الثمن الذي دفعه سميح حمودة بعد رحيله في مقال عنوانه "وداعاً لتوأم الروح ورفيق الزنزانة"، كتب فيه: "في أكثر من مناسبة، عرضت الحكومة الأميركية على سميح الحصول على الجنسية ووظيفة وفرصة لإكمال درجته العملية، وأي شيء آخر يطلبه في مقابل الوقوف إلى جانب المحققين والشهادة ضدي.. أخبرهم بشكل قاطع أنّه يفضّل قضاء بقية حياته في السجن على الكذب أو إيذاء شخص آخر لمكاسب شخصية"، فعاد إلى فلسطين مُرحّلاً في العام 2006م، ليكمل مشواره الأكاديمي والنضالي ومشروعه الثقافي والفكري.
مشروع سميح حمودة الثقافي والفكري بدأ بعد إصدار كتابه "الوعي والثورة" في العام 1985م، مُستلهماً ما كتبه المفكر الشهيد فتحي الشقاقي عن ثورة الشيخ عز الدين القسام منذ العام 1980م حول تجربة القسام، مُعتبراً أنَّ القسام رمز لأطروحة الإيمان والوعي والثورة التي أعاد الشقاقي إبداعها في مشروع الجهاد الإسلامي الفكري والنضالي، فرأى فتحي الشقاقي أنَّ الحل يكمن في بناء "جيل الوعي والثورة" الذي سيتجاوز مرحلة التردد والمحنة، ويتقدم بعملية البعث إلى نهايتها المنطقية، مُستلهماً تجربة القسام والبنا، ويقدم أطروحة الوعي والثورة والشهادة. ورأى سميح حمودة أنَّ القسام والشقاقي يجمعان بين الوعي والثورة، وأنَّ الحل فيهما معاً، فالوعي قاد القسام والشقاقي إلى الثورة، والثورة زادتهما وعياً.
أطروحة الوعي والثورة التي استنبطها سميح حمودة من دراسته لحياة الشيخ الشهيد عز الدين القسام وجهاده تجسّدت في نموذج عالم الدين الثوري، فقد ذكر في مدخل دراسته "أنَّ الدراسة بين أيدينا محاولة لاكتشاف كلمة السر – عز الدين القسام – وفك رموزها، إنها محاولة صعبة.. فالقسام ذهب في خوابي الماء.. امتزج بكل طمي فلسطين، فأنّى لنا أنْ نلملمه؟ لكنها محاولة تستحق السفر.. محاولة البحث عن عالم الدين الثوري".
البحث عن عالم الدين المجاهد الثوري هو النموذج الذي بحث عنه سميح حمودة، وأراد استحضاره في الذاكرة والواقع، ليكون مثالاً للقائد القادر على هداية الناس إلى بر الأمان في الدنيا والآخرة، فيقودهم إلى الحياة الكريمة منتصرين بالمعركة أو بالشهادة.
دور عالم الدين المجاهد الثوري في قيادة الجماهير ينبثق من دور الإسلام في ثورة الشعب الفلسطيني، فكتب سميح حمودة في مقدمة الكتاب "أنَّ الرد الثوري للشعب الفلسطيني في تلك المرحلة استند إلى الإسلام، واستمد أصوله من مفاهيم الجهاد والشهادة، لتكون الزاد والحافز على مقارعة البريطانيين والصهيونيين"، فالوعي بدور الإسلام في ثورة القسام وحركة تاريخ الأمة كروح تسري في جسد الشعب والأمة هو الذي جعله يرى في الإسلام عقيدة مُحرّكة للجماهير ومفجّرة لطاقاتها، وديناً مرتبطاً بالحياة، ونظرية تقود الثورة، وهي الصورة الحضارية التي آمن بها وأراد استحضارها ليكون للإسلام دوره الحضاري وللأمة دورها الرسالي.
وأكد سميح حمودة في أكثر من موضع في كتابه "الوعي والثورة" مبدأ أساسياً في ثورة القسام وكل ثورة، وهو "الواجب فوق الإمكان"، فكتب أنَّ القسام "استطاع أنْ يكرّس الحق كقيمة خالدة في الفكر والممارسة الإسلامية، وهو يتجاوز بالواجب حدود الإمكان... وجوب الثورة في أشد الظروف صعوبة وحرجاً"، فكان القسام بخروجه وثورته يمثل الثلة المؤمنة القليلة في مواجهة جيش الباطل البريطاني الكبير، من دون أمل في انتصار الفئة القليلة، ولكنهم قدموا الواجب المُقدّس على قلة الإمكانيات، فخرجوا من صراع الواجب والإمكان إلى طمأنينة الخيار والمصير، فكان القسام بذلك رمزاً لتقديم الواجب على الإمكان بقلبه الشجاع وعقله الواعي وروحه الاستشهادية.
الوعي في تجربة القسام موجود في كل تفاصيل الثورة، كما جاء في كتاب "الوعي والثورة"، فالقسام ليس مجرد ثائر مغامر يبحث عن الشهادة، فهو ثائر يملك نظرية واضحة ورؤية استراتيجية محددة الأبعاد والمعالم، أدرك من خلالها أنَّ الثورة ضد الاستعمار معركة واحدة في سوريا وفلسطين وكل بلاد العرب والمسلمين، فانتقل من جهاد الاستعمار الفرنسي في سوريا إلى جهاد الاستعمار البريطاني في فلسطين، وأدرك أنَّ الاحتلال البريطاني أصل الداء، والمشروع الصهيوني نتيجة له ومرتبط به، فلم يُفرّق بينهما في الجهاد والمقاومة، وأدرك خطر الهجرة اليهودية مبكراً كقاعدة لتأسيس الكيان الصهيوني فقاومها، وركز على دور الجماهير المستضعفة في الثورة، فحرّض الفلاحين والعمال على الثورة، وأعطى أولوية لبناء التنظيم الجهادي، ليكون طليعة الكفاح المسلح ورأس حربة المواجهة الشاملة ضد المشروع الاستعماري الغربي بوجهيه البريطاني والصهيوني.
رحم الله سميح حمودة، الذي التقط مُبكراً جدلية "الوعي والثورة"، عندما اختار هذا العنوان ليكون اسماً لكتابه الرائد، ومحوراً لأطروحته الفكرية، وأساساً لمشروعه الثقافي، ولم يتجاوز عمره 25 عاماً، فاكتشف القسام بعيون الشقاقي فكرة ومقاومة، ووضع يده على كلمات السر في إبداعي القسام والشقاقي، وهي الإيمان والوعي والثورة، وقضى مشوار حياته ونضاله على خُطى الرجلين – القسام والشقاقي – على طريق الإسلام وفلسطين والجهاد، وعاش ليرى بذرة الوعي والثورة تُروى بدم الشهداء والجرحى وعرق المجاهدين والكادحين، فتنمو شجرةً وارفة الأغصان، لتظلل كل فلسطين، ولتزهر وتنثر ثمار المقاومة والتحرير في مدن الوطن وقراه ومخيماته... من جنين القسام وطوالبة إلى غزة الشقاقي وياسين.