بقلم/ حسن لافي
إصرار الاحتلال الإسرائيلي على تنظيم مسيرة الأعلام وفق مسارها الذي اندلعت بسببه معركة "سيف القدس" في أيار/مايو العام الماضي يدعو إلى التساؤل. قبل عدة أسابيع فقط، خلال شهر رمضان، سارع المستوى الأمني والعسكري داخل الكيان إلى مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، وطلبوا منه منع مرور مسيرة للمستوطنين بقيادة إيتمار بن غفير تجاه باب العمود، وتم وضع الشرطة الإسرائيلية في مواجهة المستوطنين لمنعهم بالقوة، وصدر قرار بمنع عضو الكنيست بن غفير من المشاركة، ولو أدى ذلك إلى اعتقاله، وذلك كلّه بحجّة أنَّ المسيرة تعرض أمن "إسرائيل للخطر".
ما الذي تغير في المعادلة؟ هل هي مناورة "عربات النار"، التي يجريها "جيش" الاحتلال الإسرائيلي منذ مدة، والتي رفع عبرها جهوزيته استعداداً لأي مواجهة، أو تلاقت مصالح نفتالي بينيت رئيس الحكومة المتداعية والموشكة على السقوط مع مصالح رئيس الأركان أفيف كوخافي الذي يبحث عن تحقيق إنجاز قبل مغادرة مكتب رئاسة الأركان في الكرياه، حيث مقر وزارة الأمن الإسرائيلي، بعد أن بات مضرب الأمثال إسرائيلياً في الفشل، أو بات لدى الإسرائيلي تصور معين بأن رد المقاومة لن يصل إلى مواجهة مفتوحة؟
تقديم إجابات عن تلك الأسئلة يتطلَّب تقدير موقف "إسرائيل" من مسيرة الأعلام حتى الآن، والذي يتضمن النقاط التالية:
أولاً، هناك حالة إجماع كاملة بين قادة "الجيش" والأمن على إجراء المسيرة وفق المسار المعتاد، لأنهم باتوا مقتنعين بأنَّ التراجع عن ذلك سيؤدي إلى تكريس معادلة الربط بين غزة والقدس، وهذا يمس بالأمن القومي الإسرائيلي، ويعدّ ذا تأثيرات سلبية استراتيجية في قضيّة القدس؛ المرتكز الرئيس للفكر الصهيوني، وفي السيادة الإسرائيلية على ما يعتبرونها عاصمة "إسرائيل".
ورغم أن وزارة الخارجية الإسرائيلية حذرت من تأثير استشهاد الصحافية شيرين أبو عاقلة في صورة "إسرائيل" في العالم، وخصوصاً بعد ما شاهد العالم كيف قمعت الشرطة الإسرائيلية مشيّعي نعشها، لكن تبقى تأثيرات وزارة الخارجية في صنع القرار الإسرائيلي محدودة جداً أمام "الجيش" والشاباك. وعندما تم إحضار مندوب عنها إلى جلسة تقدير الموقف الأمني، كان من أجل بحث أفضل السبل لشرعنة تسيير مسيرة الأعلام، وليس العكس.
ثانياً، الموقف الأميركي لا يرغب في تصعيد، ولكن ما دام التصعيد لن يتدحرج إلى حرب إقليمية، فلا إشكالية للأميركي في ذلك، وخصوصاً أن المصلحة الأميركية بعلاقتها مع "إسرائيل" ومؤسَّستها العسكرية والأمنية في الوقت الحالي منصبّة نحو الملف الإيراني، وليس الملف الفلسطيني.
وكما جرى العرف في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، لا تستطيع أميركا أن تضغط على "إسرائيل" في ملفّين في آن واحد، وخصوصاً أن المستوى المهني في "إسرائيل" هو صاحب القرار، بمعنى أن القرار ينبع من حسابات غير سياسية بغالبها، وبالتالي تمنح الولايات المتحدة الأميركية الإسرائيلي هامشاً واسعاً.
ثالثاً، "الجيش" وشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) يدركان مدى صعوبة موقف الفصائل الفلسطينية، وخصوصاً المقاومة في غزة. ورغم أنهما يدركان أن غزة لا تحبذ الدخول في معركة، فإن الاستخبارات الإسرائيلية باتت مقتنعة بأن قضية القدس عند الفلسطينيين فوق الحسابات، وخصوصاً أن معركة "سيف القدس" أضافت رابطاً مهماً بين غزة والقدس على المستوى السياسي.
لذا، إن "الجيش" الإسرائيلي لم يقر المسيرة إلا بعد أن اعتقد بأنّه أتم جهوزيته لمواجهة أصعب الخيارات. وفي السياق ذاته، لا يمكن إهمال توقيت مناورة "عربات النار" المستمرة منذ 3 أسابيع، الأمر الذي قد يوضح سبب تغيير "الجيش" والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية موقفهما السابق الذي برز في شهر رمضان قبل عدة أسابيع.
رابعاً، نفتالي بينيت هو أول رئيس وزراء إسرائيلي من الصهيونية الدينية الاستيطانية المتطرفة، ولن يستطيع أن يتجاوز "الجيش" والمؤسسة الأمنية من اليسار، بمعنى أن يظهر أنه أقل صقورية من المستوى المهني، وهو يعلم أن نواته الانتخابية هي اليمين الصهيوني الديني الاستيطاني.
أضف إلى ذلك أنَّ هناك مصلحة لنفتالي بينيت بحدوث حرب، لسببين: الأول، أنه لن يتحمل مسؤولية اندلاعها، كما حدث مع سلفه بنيامين نتنياهو. ثانياً، وهو الأهم، أن هذه الحرب ستجعل القائمة العربية الموحدة بقيادة منصور عباس تنسحب من الحكومة، وبالتالي، بحسب الاتفاق الائتلافي للحكومة، يبقى نفتالي بينيت على رأس الحكومة مسيّراً للأعمال حتى انتخاب كنيست جديدة وتشكيل حكومة جديدة، بدلاً من أن يتولى شريكه في الائتلاف ورئيس الوزراء البديل يائير لابيد رئاسة الحكومة.
في الختام، مسار مسيرة الأعلام بات أمراً محسوماً لدى الحكومة و"الجيش" والمؤسّسة الأمنيّة الإسرائيلية، ومحاولات الوسطاء تنصبّ باتجاه الجانب الفلسطيني، بعد أن أقفل نفتالي بينيت الباب أمام المطلب الأميركي الَّذي طالب بتغيير مسار المسيرة.
نفتالي بينيت قال للأميركيين: "أبي من شارك في تحرير القدس، وأنا غير مستعد للتراجع عنها". وبالتالي، "إسرائيل وجيشها" وحكومتها أخذت مسار المخاطرة بحرب، رغم كل المخاطر التي من الممكن أن تتسبب بها لـ"إسرائيل" وجبهتها الداخلية، لكونهم يدركون أن ما تم تأسيسه من معادلات في معركة "سيف القدس" يشكل خطراً وجودياً على كيانهم المؤقت إذا استمر وراكم على تلك الإنجازات.