كانت نائمة على سرير المرض، وبصعوبة تستنشق الهواء، تضع يدها على قلبها، ولسان حالها يقول، "آن الأوان للقاء مهجة القلب"، فكانت عيناها الدامعتان تنظران إلى السماء؛ علَّها تُمسك بطيف نجلها الذي منعها الاحتلال من احتضانه منذ 27 عامًا، بعد أن تمكن نجلها -مهجة قلبها- من تنفيذ عملية استشهادية؛ ليحتجز الاحتلال أشلاءه فيما يعرف ب "مقبرة الأرقام".
هذه هي والدة الاستشهادي أنور سكر، كانت تعاني من مرض مفاجئ منذ شهور عدة، قبل أن يُعلن عن وفاتها يوم الخميس الأول من ذي الحجة 1443 الموافق (30 يونيو 2022) عن عمر ناهز الـ (70 عامًا)، قضتها بين حب الناس، والطيبة، والعاطفة، وممارسة حياتها على الفطرة، فكانت نعمة من الله عز وجل، وخير معين لزوجها طيلة حياتها.
كانت هادئة بسيطة، تمتاز بعلاقة متينة مع الأهل والجيران، لم تتسبب بوقوع خلاف بين الأهل، أو تجلب لزوجها مشكلة ما مطلقًا، فكانت طيبة جدًا، وحنونة، عملت منذ صغرها مع نساء البلد في الزراعة والفلاحة، وتطبعت بطباع الأمهات اللواتي لا يعرفن كللًا ولا مللا.
كبرت أم أنور وتزوجت (عام 1971)، لتنجب (6 بنات و4 أولاد) بينهم الاستشهادي أنور الذي لا زال اسمه يصدح في سماء فلسطين، تحرص أم أنور وفقًا لزوجها على تربية أبنائها ومستقبلهم، والحفاظ على أموالهم؛ لتعليمهم.
في الثاني والعشرين من يناير 1995، استفاقت أم أنور على وقع عملية بطولية في "بيت ليد"، حينها وصلت فرحتها وفرحة أبناء فلسطين عنان السماء، إذ أن العملية كانت مزدوجة، وقتل فيها أكثر من 20 صهيونيًا، فيما أصيب 62 آخرين بجراح مختلفة.
وزع الفلسطينيون الحلوى فرحة بالعملية البطولية، وبقتل الصهاينة الذين احتلوا فلسطين، وقتلوا أطفالها ونساءها، فكانت عملية "بيت ليد" معجزة وصدمة كبرى لدولة الاحتلال، في تلك الفترة قررت قوات الاحتلال الاحتفاظ بأشلاء أنور ودفنها ضمن ما يُسمى بـ "مقبرة الأرقام".
تمالكت أم أنور نفسها، لم تصرخ، لم تبكِ؛ كانت قوية صابرة محتسبة، راضية بقدر الله تعالى، واحتسبت نجلها من الشهداء الصادقين؛ لكنها كانت ككل الأمهات، قلبها يرق لاحتضان نجلها وتودعه؛ إلا أن الاحتلال لم يسمح بذلك مطلقًا.
أكملت "أم أنور" وزوجها وأبناؤها حياتهم بشكل طبيعي، فكانت تعلم أبناءها على درب شقيقهم أنور، الذي قدم روحه فداءً لفلسطين، ولمسرى النبي صلى الله عليه وسلم.
في عام 2017 كان هناك بقعة ضوء للإفراج عن أشلاء الاستشهادي "أنور سكر" وتسليمها لأهله في قطاع غزة، ضمن صفقة بين "إسرائيل" والسلطة برام الله للعودة إلى طاولة المفاوضات، وبدأت العائلة تُجري فحوصات الـ (DNA)، يقول الحاج أبو أنور لـ"شمس نيوز": "في البداية نفى الاحتلال وجود أشلاء أنور؛ لكن بعد الفحص اعترف وأقر بوجودها، وبدأنا ننتظر الصفقة التي لم تتم".
توقفت الصفقة بين "إسرائيل" والسلطة لأسباب سياسية، ويضيف أبو أنور: "تقدمنا بطلب لمحكمة الاحتلال، لم تتم الاستجابة، أبلغتنا المفوضية العامة بالقدس برفع القضية في محكمة لاهاي، ولم يكتب لها النجاح، وظل الموضوع معلقًا حتى الآن".
اختفت ملامح الفرحة باقتراب الإفراج عن أشلاء أنور، وتشيعها، ودفنها في مقابر المسلمين، وعادت عائلة الاستشهادي أنور إلى ممارسة الحياة بشكل طبيعي، بعد سنوات عدة اكتشفت عائلة الاستشهادي أنور أن والدتهم مريضة وتعاني من تليف في الرئة.
زادت معاناة أم أنور، فلم تعد تتنفس بشكل طبيعي، وأصبحت تلتزم الفراش، ودماؤها تسير في جسدها ببطء؛ لتتسبب بقصور في القلب، تقول لزوجها: "أشعر بتعب شديد لا أستطيع التنفس"، أسرع زوجها بنقل زوجته إلى المستشفى، وبعد ساعات أبلغه الأطباء: "تم السيطرة على وضع أم أنور، وأمورها الصحية طبيعية والحمد لله، لكنها تحتاج إلى أنبوبة "أوكسجين" وعدم التنقل كثيرًا".
أيام مرت بهدوء على عائلة أبو أنور، قبل أن تصرخ الأم وتخبر زوجها فجأة عن شعورها بدوار شديد، ونزيف حاد فقد نزفت نحو لترين من الدماء، أسرع أبو أنور الذي شعر بالارتباك، وأبلغ نجله بضرورة نقل أمه إلى المستشفى.
وبسرعة البرق وصلت أم أنور إلى المستشفى وأجروا لها كل ما يلزم من منظار ومحاولات لوقف النزيف، وإمدادها بكميات من الدماء لاستعادة عافيتها؛ إلا أن تلك المحاولات باءت بالفشل، وقرر الأطباء نقلها بشكل عاجل إلى مستشفيات الداخل المحتل.
وصلت الموافقة بالخروج من قطاع غزة يوم الخميس (الأول من ذي الحجة 1443هـ) الموافق (30 يونيو 2022م)؛ لكن إرادة الله وقدره كانت أقرب إلى روح أم أنور؛ فصعدت روحها إلى السماء، ويأمل زوجها من الله عز وجل بأن تجتمع زوجته بنجلها الاستشهادي أنور في جنة عرضها السموات والأرض.