تتهيأ سعدية لصلاة الظهر مستعينة بمن حولها من النساء، صوتها كان ضعيفًا، لا تستطيع السير على قدميها، تضع يدها اليسرى على كتف الأخرى، فيما تحملها سيدة ثانية من الجهة اليمنى، أما تقاسيم وجهها تقول "إنَّ شيئًا ما سيحدث"، خطوة وراء خطوة، حتى وصلت إلى منتصف الطريق؛ وفجأة سقطت سعدية أرضًا مغشية على وجهها.
علامات الخوف ارتسمت على وجوه النساء اللواتي حولها، فصرخت إحداهن بصوت مرتفع على السجان: "سعدية تحتاج إلى المستشفى بشكل عاجل"؛ لكن كعادتهم الخبيثة اللئيمة، كانت دماؤهم باردة لا تهمهم حياة المعتقلين، فأجاب السجان ببرودة أعصاب: "سنرسل إلى الطبيب في القسم وهو من يقرر بنفسه".
دقائق أخرى مرت على سعدية وهي ملقاة على الفراش في سجن الدامون، كان المشهد مرعبًا، واحدة كانت تبكي، وأخرى تقرأ القرآن، وثالثة تدعو لها بالرحمة، أما باقي الأسيرات لا يستطعن فعل شيء سوى الاستمرار في الصراخ على السجان، من بعيد أطل الطبيب برأسه من شباك حديدي وسط الباب، يتفحص ما يجري داخل السجن، ويقرر نقلها إلى المستشفى لتتلقى الإسعافات الأولية.
لكن الوقت تأخر، وكانت سعدية مطر (67 عامًا) تلفظ أنفاسها الأخيرة، دقائق قليلة مرت على نقلها للمستشفى قبل أن يُعلن مدير السجن أن سعدية قد فارقت الحياة.
هذه كانت اللحظات الأخيرة للأسيرة سعدية سالم رضوان (مطر) قبل أن يُسجل اسمها ضمن قائمة شهداء الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال الإسرائيلي، والتي بلغ عدد شهدائها نحو 229 وفقًا لهيئة شؤون الأسرى.
ولدت سعدية مطر بتاريخ (2-10-1958) في بلدة إذنا في مدينة الخليل بالضفة الغربية المحتلة، وكانت متزوجة، وأنجبت (7 ذكور، و5 إناث)، تعاني من مرض العصر الذي لا علاج جذري له وهو السكري، إضافة إلى ارتفاع ضغط الدم.
قبل ثمانية أشهر تقريبًا، تحديدًا بتاريخ (18–12-2021) كانت الأم سعدية، متجهة إلى زيارة ابنتها "تمارة" التي تسكن في البلدة القديمة قرب الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل، لم تكن بحاجة إلى كرسي متحرك، أو مساعدة من أحد، فقد كانت تستطيع السير على قدميها.
ككل الأمهات اللاتي يزرن أبناءهن، كانت سعدية تحمل بيدها هدية صغيرة لأحفادها، علامات الفرح والسرور ترتسم على وجهها وهي تقترب من بيت ابنتها، فجأة ظهر أمامها كائن شيطاني غريب –مستوطن- اعترض طريقها، وبدأ يصرخ في وجهها، يقول جعفر مطر نجل سعدية لـ "شمس نيوز": "حاولت أمي طرد المستوطن، والابتعاد عنه قدر المستطاع؛ لكنه أبى واستمر في اعتراضها والاعتداء عليها لفظيًا؛ ما دفع أمي لضربه وإسقاطه أرضًا".
مشهد دفاع "سعدية" عن نفسها ضد المستوطن، هو المشهد الذي زعم جنود الاحتلال قرب الحرم الإبراهيمي مشاهدته فقط؛ ما دفعهم للاعتقاد الكاذب: بأن سعدية كانت تنوي تنفيذ عملية طعن وقتل ضد مستوطن صهيوني.
في تلك اللحظة كانت سعدية تضرب المستوطن بقوة، قبل أن تندفع مجموعة من المستوطنين برفقتهم جنود الاحتلال، وانهالوا ضربًا وتكسيرًا بـ"سعدية" البالغة من العمر (67 عامًا)، يقول جعفر: "أبلغنا شهود العيان أن قوات الاحتلال طلبوا سيارة إسعاف لنقل والدته للمستشفى؛ بسبب ما تعرضت له من ضرب وتكسير".
"تلقت سعدية الاسعافات الأولية في المستشفى، ثم قرر الاحتلال الإسرائيلي اعتقالها، ووضعها في السجن الانفرادي مدة شهرين كاملين، ونقلها إلى سجن الدامون مع الأسيرات، دون أن يحدد مدة لاعتقالها" كما قال نجلها جعفر.
قبل نحو أسبوعين تقريبًا كانت هناك محكمة إسرائيلية ضد سعدية مطره، يقول المحامي لشقيقها نمر "فرج الله": "كانت سعدية على كرسي متحرك تجلس في المحكمة، وضعها الصحي متدهور، تعاني من مرض السكري كثيرًا، حديثها كان بطيئًا جدًا".
رغم حالتها الصحية الصعبة، التي لا تخفى على أحد؛ إلا أن قاضي الاحتلال ليس بقاضٍ إنساني أو قاضي عدلٍ مطلقًا؛ إنما هو قاضي مغتصب للحق والعدالة، فقد أصدر حكمًا بالسجن (5 سنوات و15 ألف شيكل)، واستأنف المحامي على الحكم وتأجلت القضية لوقت آخر.
استذكر نمر شقيق الشهيدة سعدية بعضًا من الطموحات والأحلام التي ترغب بتحقيقها سعدية ويقول لـ"شمس نيوز": "أدت سعدية مناسك العمرة رغمًا عن الاحتلال، الذي كان قد منعها في سنوات ماضية، وكانت ترغب بشغف بأداء فريضة الحج"، كما كانت سعدية تطمح بأن تمتلك بيتًا يضمها وأبناءها.
ويستعيد نمر حديثه عن أسباب الوفاة متهمًا إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية بالإهمال الطبي؛ فقد تعرضت سعدية (67 عامًا) للعزل الانفرادي مدة شهرين، ويعتبر ذلك في قاموس الأسرى أمراً كارثياً؛ فكيف لشقيقته المسنة أن تتحمل العزل، كما أن سعدية لم تنتظم في تناول الدواء المخصص لها في مواجهة مرض السكري والضغط.
وحول طبيعة الوفاة فقد اتفقت رواية نمر مع ابن شقيقته جعفر حينما أبلغهم الاحتلال بأن "سعدية كانت تستعد لأن تتوضأ لأداء صلاة الظهر، وفي طريقها إلى المتوضأ سقطت على الأرض وتوفيت".
ولم تتسلم العائلة حتى إعداد هذه القصة جثمان سعدية، حيث يتلكأ الاحتلال بوجود محاكمة لسعدية لإنهاء القضية، إضافة إلى تشريح جثمانها؛ لمعرفة السبب الحقيقي وراء وفاتها.