قائمة الموقع

الحركة الوطنية والجهاد الإسلامي بين الانسجام والتمايز

2022-07-07T13:41:00+03:00
د. وليد القططي.jpg

بقلم د. وليد القططي

تبلورت الحركة الوطنية الفلسطينية في سياق الصراع مع المشروع الاستعماري الغربي في فلسطين ومقاومة وجهيه القبيحين: الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني، في القرن العشرين، خاصة في العقود الواقعة بين وعد بلفور عام 1917م وإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964م. وقد ارتبطت الحركة الوطنية الفلسطينية بتبلور الهوية الوطنية الفلسطينية في إطار صراعها مع نقيضها الحركة الصهيونية اليهودية، ومشروعها الاستيطاني الإحلالي المُهدِد للوجود الفلسطيني شعباً وهوية.

ومن خلال هذا الصراع تشكّل وعي الفلسطينيين بذاتهم الجمعية كشعبٍ واحد وجماعة وطنية، ووعيهم بالآخر النقيض كعصابة إحلالية وجماعة استيطانية، فأفرز الشعب الفلسطيني، في سياق هذا الصراع والوعي، حركته الوطنية بأبعادها القومية والإسلامية والإنسانية؛ ليتجاوز هذا التحدي الوجودي، مُجسّدهً في كيانات سياسية وأُطر وطنية وثورات شعبية، لها أهداف وطنية ومطالب سياسية.

أبرز تلك الكيانات والأُطر قبل النكبة عام 1948م، هي: المؤتمر العربي الفلسطيني ما بين عامي 1919م – 1928م برئاسة عارف الدجاني ثم موسى الحسيني، واللجنة العربية العُليا بين عامي 1936 – 1948م برئاسة الحاج أمين الحسيني، وتجسّدت الحركة الوطنية في المقاومة الشعبية عبر ثورات عديدة، أهمها: انتفاضة يافا عام 1921م، وهبّة البراق عام 1929م، وحركة الشيخ عزالدين القسام عام 1935م، والثورة الفلسطينية الكبرى بين عامي 1936م – 1939م.

بلورت الحركة الوطنية الفلسطينية، في تلك المرحلة، ما بين وعد بلفور والنكبة، مشروعها الوطني في أهداف وطنية ومطالب سياسية، هي: إلغاء وعد بلفور ورفض إقامة وطن قومي يهودي، وإيقاف الهجرة اليهودية، ومنع بيع الأراضي لليهود، وإقامة حكومة وطنية مُنتخبة، وتحقيق الاستقلال الوطني في الإطار القومي العربي.

بعد النكبة عام 1948م، أُصيبت الحركة الوطنية الفلسطينية بعجز سياسي ونضالي أفقدها القدرة على إفراز أُطر وطنية تُمثّل الشعب الفلسطيني، فتولّت جامعة الدول العربية هذه المهمة، فأنشأت "حكومة عموم فلسطين" برئاسة أحمد عبد الباقي، ولكنها، لأسباب تتعلّق بها وبالنظام العربي، ظلّت حبراً على ورق. وأنشأت بتوجيه من النظام الناصري "منظمة التحرير الفلسطينية" عام 1964م، برئاسة أحمد الشقيري ثم ياسر عرفات بعد النكسة أو النكبة الثانية عام 1967م.

كانت المنظمة الكيان السياسي الأبرز للشعب الفلسطيني بعد النكبة، والإطار الوطني الأقوى للمشروع الوطني الفلسطيني، المتمحور حول هدف التحرير الكامل لفلسطين الانتدابية، وعودة كل اللاجئين إلى وطنهم فلسطين، وتحقيق الاستقلال الوطني الفلسطيني، والمُحدِد لوسيلة التحرير في حرب التحرير الشعبية والكفاح المُسلّح والعمل الفدائي، والمُحدِد لطبيعة المرحلة في مرحلة الكفاح الوطني لتحرير فلسطين، وحدّد العدو في الحركة الصهيونية و"دولتها إسرائيل" وداعمها الإمبريالية العالمية.

لم تُحافظ الحركة الوطنية الفلسطينية بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية على المشروع الوطني كما كُتب في الميثاق الوطني الفلسطيني، فمع تتابع عواصف الأحداث والمكائد، وتعاقب أمواج النوازل والمؤامرات، تعرّضت الحركة الوطنية بقيادة المنظمة لعوامل: التعرية الثورية، والنحت النضالي، والتآكل الوطني، فتسللت إليها مفاهيم: الواقعية الثورية، والبراغماتية النضالية، والمرونة الوطنية. وتولّى الأمر أشباه الثوار فأشاعوا نظريات انبطاحية وأفكاراً انهزامية، سمحت لتسرّب فكرة تقاسم فلسطين بين صاحب الأرض ومغتصبيها، فأنتج الفكر السياسي الفلسطيني نظرية "مرحلية التحرير" عام 1974م كأساس لبرنامج النقاط العشر، لتكون النهاية في نظرية "مرحلية التسوية" عام 1993م كأساس لاتفاقية أوسلو والسلطة الفلسطينية، وما حدث بعد ذلك على مدار أكثر من ربع قرن مجرد تكريس لهذه النهاية المأساوية للحركة الوطنية الفلسطينية بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي قفز على دفة قيادتها فريق أوسلو المُهادن للاحتلال.

وبقدر ابتعاد منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة فريق أوسلو عن مضامين الحركة الوطنية الفلسطينية وأهدافها ومشروعها الوطني التحرري، كانت حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين تقترب من فلسطين والحركة الوطنية مضموناً وأهدافاً ومشروعاً، منذ أنْ كانت الحركة حواراً فكرياً وسياسياً في النصف الثاني في سبعينيات القرن العشرين، ثم حركة مقاومة وطنية إسلامية خلال ثمانينيات القرن العشرين وبعدها، فكانت بذلك الفكر والممارسة امتداداً طبيعياً للحركة الوطنية الفلسطينية، ولكنها ليست الحركة الوطنية برؤية منظمة التحرير وقيادتها التي أوصلت الشعب الفلسطيني إلى مأزق أوسلو والانقسام.

وبناءً على ذلك، تجمع حركة "الجهاد الإسلامي" بين مساري الانسجام والتمايز مع الحركة الوطنية الفلسطينية، الانسجام مع الحركة الوطنية المقاومة في التعريف والمشروع والدور، والتمايز مع الحركة الوطنية المساومة في الفكر والسياسة والكفاح.

مسار الانسجام بين "الجهاد الإسلامي" والحركة الوطنية يبرز في تعريف الحركة لنفسها كحركة وطنية في وثيقتها السياسية "حركة تحرير وطنية إسلامية"، وكذلك "حركة مقاومة فلسطينية الإسلام مرجعها"، وتعدّ نفسها جزءاً من الحركة الوطنية "وهي جزء أصيل من مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وامتداد لكفاح الشعب الوطني، وهي حلقة من حلقات جهاد الشعب الفلسطيني والأمة على مدار تاريخنا ضد الغزاة المستعمرين وصولاً إلى الغزو الصهيوني لفلسطين".

وانطلاقاً من هذا التعريف الوطني للحركة، فإنَّ التراث الفكري للحركة يُعطي الوطنية مفهوماً دينياً مُقدّساً، فحب الوطن من الإيمان، والدفاع عنه واجب شرعي، والجهاد لتحريره فريضة إسلامية، والانتماء إلى الجماعة الوطنية لا يتعارض مع الانتماء إلى الأمة الإسلامية، ومفهوم الوطنية يتكامل مع مفهومي القومية والإسلامية، فأنهت الحركة بهذه الرؤية الفصام النكد بين الوطنيين والإسلاميين، وجمعت بين الإسلام وفلسطين والجهاد في بوتقة واحدة.

ومسار الانسجام يبرز في مشروع الحركة الوطني المُنسجم مع الحركة الوطنية الفلسطينية ومشروعها الوطني بنسخته الأصلية قبل التشويه الذي تعرّض له عقب اتفاقية أوسلو، ولكن برؤية الحركة المرتبطة بمرجعيتها الإسلامية، ففلسطين ليست مجرد أرض مُحتلة يجب تحريرها، أو مجرد أرض وقف إسلامي تحريرها واجب شرعي، ففلسطين تقع في قلب القرآن وآية من الكتاب، وجزء من السُنّة، ومركز الصراع بين مشروعي الحق والباطل، ولذلك فمشروع الحركة الوطني له بُعد ديني مُقدّس، ففلسطين أرض مباركة ومُقدّسة بنص القرآن والسُنّة، وتحرير أرضها واجب شرعي وفريضة دينية، ومقاومة مُحتليها جهاد في سبيل الله.

وربطت الحركة بين مشروع تحرير فلسطين ومشروع نهضة الأمة، فلا يتم أحدهما إلاّ بالآخر، ومشروع تحرير فلسطين هو قضية الأمة الإسلامية المركزية ومشروعها ومسؤوليتها، وبهذه الرؤية تنسجم الحركة مع المشروع الوطني لتحرير فلسطين مضموناً وأهدافاً، ولا ترى أهمية للمُسميات والأُطر، فمشروع التحرير أهم من "منظمة التحرير"، والحركة الوطنية أهم من أي كيان سياسي.

والانسجام بين "الجهاد الإسلامي" والحركة الوطنية يبرز في قضية الحركة المركزية، فهي قضية وطنية محورها تحرير فلسطين، فجاء دورها الوطني متسقاً مع قضيتها الوطنية ومشروعها الوطني، فمنذ البداية حددت لمجاهديها وشعبها دور إحياء فريضة الجهاد في سبيل الله داخل فلسطين، ومُشاغلة العدو واستنزاف طاقاته المادية والبشرية، وإدامة جذوة الصراع مُشتعلة حتى تكتمل شروط النصر ويأتي وعد الآخرة، والتصدي لمؤامرات تصفية القضية الفلسطينية القادمة من الغرب، وإفشال مؤامرات التطبيع والتحالف مع العدو.

وأكدت الوثيقة السياسية للحركة على هذا الدور الوطني: "النهج الثابت للجهاد الإسلامي استمرار المواجهة مع العدو الصهيوني، واستنزاف طاقاته وقدراته وزعزعة أمنه واستقراره؛ لإجباره على الرحيل عن أرضنا وصولاً إلى التحرير الكامل لفلسطين"، وقد عدّت الحركة النضال الوطني والكفاح المُسلّح عبادة دينية كالصوم والصلاة، كما عبّر عن ذلك أمينها العام الأستاذ المجاهد زياد النخالة بقوله موجّهاً مجاهدي الحركة: "لنذهب إلى القتال كما نذهب إلى الصلاة".

مسار الانسجام بين "الجهاد الإسلامي" والحركة الوطنية بمضمونها وأهدافها تزامن معه مسار التمايز مع الحركة الوطنية برؤية منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها، وكان لهذا المسار ثلاثة مستويات: فكرية وسياسية وكفاحية، ففي مستوى التمايز الفكري كانت فصائل المقاومة الفلسطينية التي دخلت المنظمة بعد هزيمة حزيران – يونيو عام 1967م متأثرة بتيار التغريب بأهم إفرازاته الفكرية (العلمانية والماركسية)، فشكّلت مرجعيات فكرية وأيديولوجية لنهجها النضالي ونظرياتها الثورية، بمضامينها التي تفصل الإسلام كنهج نضالي ونظرية ثورية، عن النضال الوطني والنظرية الثورية، إمّا بتحييده أو معاداته، فتمايزت حركة الجهاد الإسلامي بتبني الإسلام مرجعية فكرية ونظرية ثورية وعقيدة قتالية في مرحلة التحرير الوطني، يستطيع تحريك الجماهير وتثوير الشعب وتوجيه الصراع، فكان هذا التمايز الفكري جوهرياً في مشروع "الجهاد الإسلامي" بعيداً عن التكفير والتخوين والشيطنة، وبعيداً عن عقيدة (الفرقة الناجية) أو (جماعة المسلمين)، وقريباً من الالتقاء مع الكل الفلسطيني على القاسم المشترك فلسطين.

وفي إطار مسار التمايز بين "الجهاد الإسلامي" والحركة الوطنية بقيادة المنظمة، يأتي التمايز السياسي، فقد تميزت الحركة بالثبات على المبادئ والأهداف والحقوق كما جاءت في فكرها ومواقفها، وكما جاءت في الميثاق الوطني قبل التعديل، في حين تراجعت المنظمة عن كل ذلك، مستندة إلى فكر سياسي مبني على فرضيات ثبت خطؤها، تُراهن على وهم الضغط الدولي وخدعة الشرعية الدولية، وتعتقد أنَّ العدو سيمنحنا جزءاً من فلسطين إذا تنازلنا عن معظمها، فاختزلت المنظمة خيار الحركة الوطنية في مسار التسوية السياسية السلمية، واختزلت مسار التسوية في طريق أوسلو المسدود، فتحوّلت عن نهج المقاومة إلى نهج المساومة على الأرض والحقوق، وخلقت أولويات بديلة من التحرير أدت إلى بناء سلطة تحت الاحتلال والصراع ثم الانقسام عليها، وبحثت عن طرق للتعايش مع الاحتلال بدل مقاومته، فكان التمايز السياسي بين "الجهاد الإسلامي" والحركة الوطنية الأوسلوية (المساومة) كبيراً.

التمايز الكفاحي حول السلطة والمقاومة كان ولا يزال واضحاً بين "الجهاد الإسلامي" والحركة الوطنية بقيادة المنظمة التي أنشأت السلطة الفلسطينية، لتكون جسراً لمشروعها الوطني في حده الأدنى (دولة فلسطينية في الضفة والقطاع)، ولكن الاحتلال جعل السلطة مقبرة للمشروع الوطني المُعدّل، وجسراً لعبور "إسرائيل" إلى العواصم العربية، وفرصة لتكريس الاحتلال والاستيطان والتهويد... والأهم أنَّ السلطة أصبحت عنواناً للتمايز الكفاحي بين نهجي التعايش مع الاحتلال ومقاومته، فالتعايش مع الاحتلال عبر الشراكة الأمنية والاقتصادية بقيادة النخبة المسيطرة على السلطة والمنظمة المحسوبة زوراً على الحركة الوطنية، ومقاومة الاحتلال بالمواجهة المستمرة والاشتباك الدائم ثقافة وممارسة كما تفعل حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين وكل فصائل المقاومة، وهذا التمايز الكفاحي أفرز رؤيتين لبناء النظام السياسي الفلسطيني: إحداهما، نظام تحت الاحتلال محكوم بسقف أوسلو، والآخر مُحرر من الاحتلال محكوم باستحقاقات مرحلة التحرير الوطني.

خُلاصة الموضوع أنَّ الحركة الوطنية الفلسطينية ارتبطت نشأتها بمقاومة المشروع الاستعماري الغربي بشقيه: البريطاني والصهيوني، واستمرارها توقف على تمسكها بالأهداف الوطنية للشعب الفلسطيني، وحيويتها مستمدة من تبنيها لعقيدة شعبها الإسلامية مرجعية فكرية ونضالية ثورية. وأنَّ أي عملية فك للارتباط بين الحركة الوطنية من جهة وبين نهج المقاومة والأهداف الوطنية وعقيدة الشعب كمرجعية نضالية ونظرية ثورية من جهة أُخرى، ستؤدي حتماً إلى فقدان الحركة الوطنية لمشروعها الوطني ومضمونها الثوري وروحها النضالية، حتى لو احتفظت لنفسها باسم التحرير، واحتكرت لنفسها زعم التمثيل الوطني... فمضمون الحركة الوطنية وهدفها وروحها أهم من اسمها وإطارها وشكلها، وهذا ما استوعبته حركة "الجهاد الإسلامي" وتميزت به.

 

اخبار ذات صلة