مثل هذه التخصصات ذات طبيعة فنية، أي أن المتخصص فيها يكرس ذكاءه وجهده في نطاق جزئي وليس في صياغة الإطار الشامل للحياة، ثم تفرض هذه التخصصات على أهلها تفرغا شبه كامل في حياتهم لمقتضيات مهنتهم.
وإذا نظرنا إلى طبيعة الحياة فإننا نجد التخصصات الأكثر تأثيراً في بناء الوعي والمجتمعات هي الحقول الإنسانية وتخصصات مثل علم السياسة وعلم الاجتماع والإعلام وعلوم الدين والآداب والمواهب الفنية.
إذا رحل كل المبدعين إلى الطب والهندسة فسيتجه الأقل ذكاء ممن تغلب فيهم نزعة التقليد على ملكة الإبداع إلى هذه الحقول الأكثر تأثيراً على الناس ، وهذا يعني أن من سيصنع المجتمع وسيشكل وعي الأجيال هم الأقل ذكاء والأميل إلى الحفظ والتقليد.
هناك من يجادل أن من الأطباء والمهندسين من يؤدي دوراً اجتماعيا مهما ، لكن النقاش ليس حول أشخاص الأطباء والمهندسين بل عن الدور الوظيفي لمثل هذه التخصصات.
ومن يؤدي دورا اجتماعيا أو سياسيا من ذوي التخصصات الفنية فإنه لا يفعل ذلك بفضل تخصصه الفني، بل بفضل الجهد الإضافي الذي بذله لمغادرة حدود التخصص وتشكيل الإطار العام واكتساب الوعي الاجتماعي..
الطبيب الناجح ينقذ حياة مريض، لكن عالم الاجتماع الذكي قد ينقذ مجتمعا بتشخيص أمراضه وتنبيه الوعي العام إلى علاج هذه الأمراض ، والإعلامي ذو الرسالة قد يشكل وعي شعب كامل، والأديب المبدع قد يبث روحا تجدد الحياة في الناس .
نهضة المجتمعات تقتضي توجيه الاهتمام إلى الحقول الأكثر حيوية في بناء الوعي والتعامل مع هذه الحقول بروح إبداعية تستشعر الرسالة ، ولا تنظر إلى التخصص العلمي أنه مجرد وجاهة لاكتساب التقدير ونيل الامتيازات