شكّلت الجولة الأخيرة في المواجهة مع العدو الصهيوني، أنموذجاً جديداً في طريقة الرد على سياسة اغتيال القادة الفلسطينيين. فقد تمكّنت حركة الجهاد الإسلامي من إفشال مخطط دق إسفين الانقسام بين فصائل المقاومة، وذلك بتسمية المعركة «وحدة الساحات». فالشعار عبّر عن ذاته، كإنجاز لتراكمات النضال، وليس كمطلب للمعركة. وبتلك التسمية، أفرغت الحركة غوغائية الجدل في الشارع من مضمونها، والتي من شأنها أن تؤثر في ثقته بوحدة الفصائل داخل قطاع غزة، وتحديداً الأجنحة العسكرية المقاومة التابعة لها. وكنتيجة، بتنا كعرب وأحرار في العالم نراقب نتائج الصواريخ التي تضرب مغتصبات الأراضي المحتلة عام 1948، بروحية الساحات الموحدة، كحقيقة أولاً، وكاستراتيجية ثانياً.
استطاعت الجولة الأخيرة تثبيت معادلة الرد الفوري على اغتيال أي مقاوم في غزة، ليتعزز مبدأ الردع، وحققت الجولة هدفها. فعدم التزام قادة العدو الصهيوني بشروط وقف إطلاق النار، دلالة على أنهم يبحثون عن سبب يضعضع ثقة الشارع في جدوى المقاومة. وهذا التهرب من تنفيذ إطلاق سراح الأسيرين، سيضعهم مستقبلاً أمام استحقاق جديد؛ عدم المراهنة على الوساطات، وسينفذ شروط المقاومة صاغراً قبل أي وقف لإطلاق النار. فالمقاومة في أماكن تواجدها كافة تتطور يوماً بعد يوم في الأداء، وتستخلص العبر، أمام كيان مارس كل أنواع الاستكبار والظلم، وبات يحفر قبره بيده على قاعدة أنه لا يملك خيارات تحقق له أي إنجاز. فيعتمد خياره الأساسي في تثبيت وجوده بالقوة العسكرية التي تعتمد القتل والتدمير والحصار والتجويع. وهذا يكرس مصداقية المقاومة ونضالها المحقّ في وجه الباطل.
لا نستطيع هنا أن نعتمد الخسائر لنستدل على المردوع، بل بالمقارنة بين الأمس حين كان يمر أي عدوان بهدف الاغتيال بلا رد مباشر وفوري، وبين اليوم حيث يضع الكيان نفسه أمام مواجهة عسكرية قاسية، استطاع الوسطاء إيقافها في هذه الجولة. لكن من غير الواضح إذا ما كانوا يستطيعون إيقافها في جولة جديدة قبل أن تتوسع لمواجهة شاملة فلسطينياً.
إذاً، النتيجة عززت مبدأ الردع، وعمقت أهمية وحدة الساحات، وثبتت الوعي لدى المتلقي، في أن المقاومة حاضرة، وقادرة، ولا تتردد في المبادرة بالتصعيد. وبهذا كرست مبدأ الجدوى منها لصالح البوصلة والأهداف الاستراتيجية.
استطاعت حركة الجهاد الإسلامي التأكيد على أن قرار المواجهة ليس رهينة لإجماع على الرد، بل وحدة الساحات تتيح المبادرة لرد عسكري فردي غير قابل للتأجيل. فالمواجهة العسكرية هدفها إحراز نصر أو تثبيت حالة، ونتائجها ليست مرهونة بمن يطلق الصواريخ، بل بأهدافها وإعداداتها. ونحن في هذه المعركة لم نلحظ قدرات أقل قوة من السابق، وهذا إنجاز آخر جسد في رسالته القدرة على المواجهات الفردية، بلا المساس بوحدة غرفة العمليات المشتركة في المواجهات الكبرى، وهذا الميزان الأهم في المعادلة.
لماذا «وحدة الساحات» إنجاز وليست شعاراً مطلبياً:
إن الشعار حاضر منذ زمن في بنية واستراتيجية محور المقاومة، فالشعار يعبر عن الساحات المباشرة التي أخذت طريق المقاومة نهجاً، وليس نداء لأنظمة وأحزاب مرتهنة لأجندات خارجية، والذي عزز حضوره وعززه كشعار، هبة الشارع الفلسطيني على مساحة فلسطين التاريخية تحت راية الهوية المقاومة الجامعة بعد أحداث الشيخ جراح وخلال معركة «سيف القدس».
إذاً، فوحدة الساحات حقيقة متجذرة في ذهنية كل من يؤمن بعروبته كنهج، وبالمقاومة كفعل، وبالمحور كعنوان. والجولات الحالية والمقبلة هي لتعزيزها وانتشارها، لجعل البيئة الحاضنة للمقاومة على مساحة أمتنا العربية والإسلامية أكثر فاعلية وأعمق تأثيراً.
البيئة الحاضنة
العدو الصهيوني بيئته الحاضنة أولاً هي سكانه من اليهود الصهاينة وهم في أعلى درجات القلق. وثانياً أنظمة الاستكبار وبعض الأنظمة العربية التابعة. في المقابل إن البيئة الحاضنة للمقاومة والممانعة هم غالبية الشعب العربي الذي يزيد تعداده على 300 مليون نسمة، وشعوب مسلمة في دول وطنية عقائدية كإيران، وملايين من المناصرين في جميع أنحاء العالم. فمن هذه المقارنة البسيطة، فإن تعزيز شعار وحدة الساحات ليس مرهوناً بوحدة الفصائل والأحزاب فقط، بل بوحدة البيئة الحاضنة كخط دفاع أول عن القضية المركزية. ولهذا فإن وحدة الساحات يجب أن تعتمد رفع راية جامعة على أساس الهوية والبندقية. فالعروبة المقاومة تجمع، والإسلام المقاوم يجمع، والقضية المركزية تجمع. ولهذا فالمحور كقوة عسكرية رادعة وهجومية يكمل المعادلة في بيئة حاضنة على مستوى الأمة الواثقة بأن البوصلة تحرير فلسطين والجولان وكل أرض مستعمرة من أجنبي ستجعل من الانتفاض بوجه الأدوات والمطبعين والمتخاذلين ذا جدوى.
نحن اليوم في عصر الإنجازات التي ثبتت حقيقة الجدوى من المقاومة، وأن ثمن المقاومة أقل كلفة من ثمن الاستسلام. وعلى الدول والأحزاب والفصائل والقوى الوطنية تعزيزها في نبض الشارع ببرنامج ونشاط ميداني مباشر. فمعيار الانتصار المنشود ليس فقط عسكرياً، بل إعادة الثقة إلى شارعنا العربي وتمكينه من المشاركة في إعادة بناء مستقبله على أساس أن الأمة ساحة واحدة في هذا العالم الذي تعدد أقطابه ومصالحه ومطامعه.