"من كان له المسجد نقطة انطلاق وصل بسرعة البرق إلى ما يشتاق" بهذه الكلمات يُمكِننا أن نُلخِّص تفاصيلَ حياة شهدائنا الأطهار الذين قدَّموا أنفسهم وأرواحهم رخيصةً في سبيل الله، إنها حياةُ من تُكتَب قصصهم بقواميس العز والفخار، إنَّها القصص الحقيقة لمن اصطفاهم رب الأرض والسماء، فهم الذين تركوا ملذات الدنيا الزائلة وزينتها الفانية، وحملوا على أكتافهم الأمانة العظيمة، أمانةَ الجهاد والدفاع عن مسرى النبي الكريم -صلَّ الله عليه وسلم- والذود عن حمى أبناء شعبنا ووطننا، فامتشقوا أسلحتهم وطوَّروا صواريخهم، وواصلوا ليلَهم بنهارهم في ميادين التجهيز والإعداد، وتسابقوا نحو جناتٍ تجري من تحتها الأنهار ولسانُ حالهم يقول: "يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها."
إنهم أشداء في أجسامهم، أشداء في إيمانهم، أشداء على أعدائهم، رحماء فيما بينهم، فهم نور على من يعتزم درب السبيل، ونار على مَن يميل عن درب الجهاد والمقاومة..
طوبى لهم.. إن أثمن الصفقات التي تمت وتتم على أرضنا المباركة حتى قيام الساعة، هي الصفقة التي تمت بين المجاهدين وربهم تبارك وتعالى، فقد باعوا أنفسهم والله اشترى على أن يكون الثمن الجنة، فلا تراهم آبهين أو ملتفتين إلى متاع الدنيا وزخرفها، بل سخروا حياتهم وطاقاتهم وأموالهم رخيصةً في سبيل الله تعالى.
إنها قوافل العظماء الذين عرفوا سبيل العشق الحقيقي فجعلوا تلك الديار الباقية عنواناً لهم، ورسموا إليها دربهم بدمائهم الزكية، فلبوا نداء الجهاد والحق، وَهَبُّوا نصرةً لدين الله ولمسرى نبيه الكريم، صدقوا الله فصدقهم، ورزقهم الشهادة مُقبِلين غير مُدبرين، فهنيئاً لهم الفردوس الأعلى.
نتحدث عن سيرة القائد الكبير "خالد منصور" (عضو المجلس العسكري وقائد المنطقة الجنوبية في سرايا القدس)، شخصية لم يستطع أحدٌ حصر سيرتها أو وضع صفاتها في سياقٍ واحد، فكل من أراد الحديث عنها، تناول جزءاً منها أو بُعداً لها، ليكتشف يوماً بعد يوم أن الحكايات حول سيرة القائد "أبو منصور" ما زالت في بداياتها.
ولنكتشف أيضاً أننا نعيش في مرحلةٍ احتجناها لنفهم بعضاً من أبعاد عقله الألمعي! هي الحقيقة التي نراها عندما نتحدث عن رجلٍ حكايته طويلة، أطول من عمره وأفعاله وإنجازاته.
ميلاد القائد
في يوم هادئٍ من أيام الله المباركة، حيث كانت الشمس تنشر خيوطها مُبشِّرةً ببزوغ نهارٍ جديدٍ، كانت مدينة رفح جنوبي قطاع غزة على موعد لاستقبال شهيدنا القائد "خالد سعيد شحادة منصور" الذي تفتَّحت عيناه مُبصِراً نور الحياة مُتنسِّماً هواء فلسطين العليل يوم الرابع عشر من شهر أغسطس من العام 1975م، حيث نشأ وترعرع في كنف أسرةٍ فلسطينيةٍ مُحَافظة، يعود أصلها لبلدة برقة المحتلة حالياً، تربى في أحضانها على الالتزام والتربية الإسلامية الحسنة التي توجه من خلالها لطريق الخير والصلاح، فرضع لبات العز والكرامة، وشبَّ على حب الجهاد والتضحية والفداء.
تزوج القائد شهيدنا القائد "أبو منصور" ثلاثَ زوجات، وأنجب منهن ثمانيةَ ذكور، أكبرهم (منصور)، وخمسة إناث، أكبرهن (براء).
ورغم الحياة الصعبة التي عاشها القائد، بدءاً من الانشغال بالعمل الجهادي، ومطاردة الاحتلال له، والإشراف على المجاهدين، ووضع الخطط لتنفيذ العمليات الجهادية، إلا أن ذلك كله لم يكن عائقاً أمامه في صلة رحمه وزيارة أهله وأقاربه، ومتابعة شؤون حياته الاجتماعية والعائلية.
رحلة الجهاد والمُقاومة
بدأ القائد "خالد منصور" مسيرته الجهادية في قطاع غزّة عام 1987م، من خلال الأطر الحركية والطلابية لحركة الجهاد الإسلامي، ومن خلال المشاركة في المَسيرات، ورشق آليات الاحتلال بالحجارة والزجاجات الحارقة، والكتابة على الجدران، وإلصاق "البوسترات" الداعية إلى مقاومة المحتل، والانتفاض عليه بكل الطرق والميادين.
وتدرج شهيدنا القائد في العمل الحركي، حتى التحق بأول جهاز عسكري لحركة الجهاد الإسلامي والذي كان يُسمى آنذاك "سيف الإسلام"، وعند تشكيل الجهاز العسكري الثاني "القوى الإسلامية المجاهدة – قسم-" التحق به فوراً؛ ليكون بطلاً من أبطاله، ومجاهداً صنديداً في سبيل الله، وكان ذلك مطلع التسعينيات، ومنذ ذلك الوقت كانت الانطلاقة المباركة والمهمة المفصلية للقائد الكبير "خالد منصور".
تعرَّض القائد "أبو منصور" خلال عمله مجاهداً في "القوى الإسلامية المجاهدة (قسم)" للاعتقال في سجون السلطة الفلسطينية عام 1997م، بعد تنفيذه عملية جهادية أسفرت عن مقتل 3 جنود صهاينة؛ ليخرج من السجن أكثرَ صلابة وأشدَّ عزة وعزماً، واضعاً نصب عينيه توجه جام غضبه وقهره على الصهاينة، دون أن يلتفت أو يُبالي بما فعل به أبناء جلدته، وبدأ يطور أداء عملياته وإمكانياته.
ولشهيدنا القائد "خالد منصور" برفقة إخوانه القادة، الأثر الأول في تأسيس مجموعات "سرايا القدس" الجناح العسكري الحالي لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة، حيث عمل على تشكيل الخلايا العسكرية وتدريب أفرادها منذ مطلع الانتفاضة الثانية عام 2000م، وإصدار أوامر بتنفيذ العمليات الفدائية والمهام الجهادية ضد أهداف عسكرية صهيونية.
يُعَدُّ شهيدنا القائد الكبير "أبو منصور" العقلَ المدبر للعديد من العمليات الاستشهادية، وعمليات القنص التي كانت تستهدف المغتصبات الصهيونية البائدة التي كانت جاثمة على أرض رفح، والتي نفَّذها رفقة الشهيد القناص "رامي سلامة" وعدد من المجاهدين، بالإضافة إلى عمليات تفجير الآليات والجيبات الصهيونية التي أدت إلى مقتل العديد من ضباط وجنود الاحتلال، علاوةً عن عمليات إطلاق الصواريخ وقذائف الهاون صوب المغتصبات خلال انتفاضة الأقصى مطلع 2000م وحتى اندحار الاحتلال من غزة عام 2005م.
نقلة نوعية للوحدة صاروخية
أحدَثَ القائد "خالد منصور" إلى جانب إخوانه القادة الشهداء والأحياء نقلة نوعية في تطوير البنية التحتية لسرايا القدس، خاصة في مجال تصنيع الصواريخ المحلية، وقد اتّسعَ نطاق التّصنيع الصاروخي على يده ويد إخوانه، فشهدنا تطوُّراً لافتاً في تصنيع هذه الصواريخ التي استطاعت الوصول إلى عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948م، وقد أدخل القائد "أبو منصور" الكثير من الصواريخ إلى الخدمة العسكرية، أبرزها: "صواريخ قدس، وقدس متوسط المدى"، والتي أوقعت في جنود العدو وقطعان مستوطنيه العشرات من القتلى والمئات من الجرحى.
ويُحسب لـشهيدنا القائد "أبو منصور" أنهُ كان من المشرفين شخصياً على عدد من العمليات الصاروخية وعلى عمليات أخرى برفقة إخوانه القادة:
*عملية الزلزلة الصاروخية في شهر فبراير2006م
*عملية المرصاد الصاروخية في شهر أبريل 2006م
*عملية الوفاء الصاروخية في شهر نوفمبر 2006م
*عملية الوردة الحمراء الصاروخية في شهر يناير2007م
كما أشرف القائد أبو منصور برفقة إخوانه أعضاء المجلس العسكري لسرايا القدس على المعارك التي خاضتها سرايا القدس أبرزها معركة بشائر الانتصار ومعركة السماء الزرقاء ومعركة كسر الصمت ومعركة البنيان المرصوص وغيرها من المعارك، حيث كان مسؤولاً للوحدة الصاروخية لسرايا القدس في قطاع غزة.
كان القائد خالد منصور من القادة الذين يتطلعون بشكل دائم إلى تطوير العمل العسكري النوعي فكانت له بصمة قوية برفقة المهندس القائد الشهيد عوض القيق، صاحبَ البصمةِ وواضع اللبنة الأولى لتأسيس "سلاح المسيرات" في سرايا القدس، وقد بدأ القائدين مشروع امتلاك أول طائرة مُسيرة في يناير من العام 2008م؛ لينالا شرف السبق والإبداع والابتكار، فقد كان القائد "خالد منصور" طموحاً يخطط دوماً بعقلية مُتفتحة، وقد طور مهندسو السرايا "الطائرات المسيرة" على مدار أعوام طويلة إلى أن أثبتت جدارتها العسكرية بالتجربة الحيّة بعد أن استخدمتها للمرة الأولى في استهداف آليتين عسكريتين صهيونيتين بواسطة طائرة مسيّرة في معركة حمم البدر عام 2019م.
تطوير قوات النخبة
آمنَ القائد خالد منصور بالدور الكبير لوحدات النخبة في معركتنا مع العدو الصهيوني؛ لما لها من تأثير كبير وتكبيد الخسائر لقوات العدو، فكان من أصحاب فكرة تأسيس الوحدة الخاصة للسرايا منذ العام 2003م وصولاً إلى بناء "وحدة النخبة" في سرايا القدس، حيث أشرف شخصياً في الأعوام الأخيرة على اختيار وتدريب هذه القوات النخبوية خاصةً بعدما تكلف بقيادة المنطقة الجنوبية، فكرَّس معظم وقته لتدريبها على تنفيذ عمليات إنزال خلف خطوط العدو، والتصدي للقوات الخاصة الصهيونية، ونصب الكمائن لأي قوة تحاول التسلل إلى عمق القطاع.
تأسيس الإعلام الحربي
يعتبر القائد "خالد منصور" من المؤسسين لوحدة الإعلام الحربي في سرايا القدس، وانطلقت الوحدة بصفتها إعلاماً مقاوماً هدفه الأساسي إبراز صورة "سرايا القدس"، وبدأ ذلك من خلال انتشار المواد الإعلامية التي تنتجها الوحدة من بيانات عسكرية وعروض مرئية وكليبات وتقارير خاصة، عبر الفضائيات ووسائل الإعلام والأماكن العامة.
القائد الإنسان
كان القائد "خالد منصور" قريباً من البسطاء والمحتاجين والفقراء متلمساً لهمومهم وتطلعاتهم، وبالمثل كان متواجداً في الميدان مع الأبطال المقاتلين في مختلف الجبهات يتفقد أحوالهم، ومشرفاً علَى إعدادهم وتأهيلهم وتخريجهم للقتال.
كانت مودته وزياراته للجميع في المناسبات لا تتوقف رغم الانشغال، وإن غاب يوماً يُرسِل من ينوب عنه، لم يُقصر في دعم شابٍ مقبل على الزواج، أو الوقوف بجانب عائلةٍ فقدت سندها، أو مواساة لجريح، أو غير ذلك من الأمور التي كانت لها أهميةً كبيرة في حياة شهيدنا القائد.
"أبو منصور" في عيون مُحبيه
كان القائد "أبو منصور" قريباً من الصفوف الشابة، يُفضِّل الاحتكاك بهم، ويُصغي باستمرار لاقتراحاتهم ويتلمس احتياجاتهم، ويُركز على الاستفادة من العبر، ويطرح الحلول للعقبات، ويطور الأفكار، كان يتميز بحب الخير لغيره أكثر من نفسه، ويحظى باحترام وتقدير كل من حوله من كافة المستويات.
قائد وحدوي بامتياز
ربطت القائد الكبير "خالد منصور" علاقة أُخُوَّةٍ وتعاون مع كافة فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة فشارك في عدة عمليات مشتركة مع الأجنحة العسكرية لفصائل المقاومة، وكان صمام أمان برفقة إخوانه لتقريب وجهات النظر في الإشكاليات التي تحدث بين التشكيلات والفصائل العسكرية وكان داعماً لهم بتوجيه من قيادة الحركة.
صديق الشهداء
ارتبط القائد "أبو منصور" بعلاقات طيبة مع الجميع، وكانت تربطه علاقة الصداقة بعدد كبير من الشهداء، ومنهم الشهداء القادة: (محمد عبد العال - خالد الدحدوح - مقلد حميد – عرفات أبو عبد الله - حسن أبو عرمانة - محمد الشيخ خليل - جمال أبو سمهدانة - ماجد الحرازين -عمر أبو شريعة - رائد العطار - محمد أبو شمالة - عمر أبو ستة – عامر قرموط - فراس حسان - محمود العرقان - رامي سلامة - بهاء أبو العطا – صلاح الدين أبو حسنين - دانيال منصور)، والكثير الكثير من الشهداء القادة والمجاهدين.
عُظماء المنطقتين الجنوبية والشمالية
عمل القائدين الكبيرين الحاج "خالد منصور" والحاج "تيسير الجعبري" كقائدين للمنطقة الجنوبية والمنطقة الشمالية، حيث ربطتهم علاقة وطيدة وعميقة، واصطفاهم الله -سبحانه وتعالى- شهداء في معركة "وحدة الساحات"، وكانت للشهيدين بصمات هامة في كل المحطات الجهادية منذ التأسيس والبدايات، حيث شاركا في العمليات الجهادية، وتطوير بنية سرايا القدس.
وشهدت المنطقتين الجنوبية والشمالية تحت إمرتهما الجولات والصولات مع العدو الصهيوني، وعلى رأسها معركة "سيف القدس" والعديد من العمليات الجهادية.
رحيل القائد الكبير
كان شهيدنا يُردد دوماً أنَّ "الموت أو الشهادة في سبيل الله دفاعاً عن الوطن هو موتٌ رائعٌ وخلودٌ أروعٌ، وأن يقضي الإنسان نحبه على هذه الطريق هو الفوز الكبير".
ارتقى القائد الكبير "خالد منصور" شهيداً إلى العلا، ليلة السبت الموافق 6-8-2022م، في عملية اغتيال جبانة نفذتها طائرات الحقد الصهيونية، التي أطلقت صواريخها اتجاه المنزل الذي كان فيه القائد "خالد منصور" ومعاونيه القادة الشهيدين رأفت الزاملي "الشيخ عيد" وزياد المدلل، خلال تخطيطه وتوجيهه للمجاهدين للتصدي للعدوان الصهيوني الغاشم الذي بدأ الاحتلال على قطاع غزة باغتيال القائد الكبير "تيسير الجعبري"، لتنطلق بعدها معركة "وحدة الساحات" التي أذاقت سرايا القدس العدوَّ بعضاً من بأسها، ودكت المدن والمغتصبات والمواقع العسكرية الصهيونية بمئات الرشقات الصاروخية وحمم قذائف الهاون، وفرضت حظراً للتجوال في كيان العدو الصهيوني وأحالته إلى جحيم؛ ليهرب المستوطنون الصهاينة وجيش الاحتلال المهزوم إلى الملاجئ.
رحل القائد "أبو منصور" نقياً طاهراً شامخاً، لم يرتبك ولم ينحنِ أمام عدوٍّ ضرب برحيله أروعَ الأمثلة، فكان النموذجَ والقدوةَ والرمزية التي علينا الاقتداء بها، والتمثل بسلوكها، واقتفاء أثرها الحميد، تاركاً لنا رحلة جهادية مُشرفة أفنى فيها وقته وعمره وجهده، وما بدَّل ولا غيَّر ولا تنازل عن شبرٍ واحدٍ من أرضنا الطاهرة، لينقش اسمه في مهجة القلوب، ويحط رحاله في دار المقر.
وسيظل شهيدنا القائد "أبو منصور" نبراسَ الأمة، وملهِمَ الشهداء بالتضحية والفداء والتصدي لكل المؤامرات، فسلامٌ لروحه الطاهرة، وتقبله الله في الفردوس الأعلى.