ركض محمد بكل سرعته متجاوزًا الحشود بين الناس بجرأة لم يتوقعها أحد، أنفاسه تتصاعد، دقات قلبه تخفق بقوة، وصوته يرتفع مع كل قفزة بالقول: "الله أكبر الله أكبر"، كانت رصاصات القناص القاتل قد اخترقت جسد الطفل الصغير حسين، وأصابت مواطنين اثنين حاولا إنقاذه؛ لكن محمد نفض الخوف من جسده واستل سيف الشجاعة محاولًا إسعافهم.
في تلك اللحظات كان القناص قد جهز نفسه جيدًا؛ لإعدام المواطنين الفلسطينيين بدم بارد وإصابة أكبر عدد منهم، مستغلًا محاولات إنقاذ الطفل حسين، ظهر محمد عرايشي كالنسر في عدسة القناص الإسرائيلي فأُصيب محمد بيده، ولم يتراجع ليلتقط أنفاسه؛ فأكمل طريقه صوب الطفل فأصيب برصاصة ثانية في البطن، وثالثة في الخصر.
لم يقوَ محمد (25 عامًا) على مقاومة الرصاصات التي اخترقت جسده، فوقع على الأرض قرب المصابين ينتظر من يسعفهم، أشعلت سيارات الإسعاف مكبر الصوت المزعج وأضاءت الفانوس معلنة عن حالة من الغضب الشديد، وبدون تنسيق مع العدو انطلق المسعفون ليضعوا أنفسهم في مرمى القناص؛ ليتم إنقاذ المصابين ونقلهم إلى المستشفى.
دقائق معدودة على المشهد البطولي لمحمد قبل أن يصدر بيان وزارة الصحة معلنًا عن استشهاد الطفل حسين جمال طه (16 عامًا) وإصابة ثلاثة مواطنين أحدهم بجراح خطيرة، كان ذلك محمد عرايشي فاقدًا للوعي وقد أدخل إلى العناية المركزة؛ أملًا في إنقاذ حياته.
الرصاصات التي اخترقت جسد محمد، قطعت الشرايين، ومزقت الأمعاء، وسممت الجسد، ودمرت الكلى، إضافة إلى استقرار واحدة من الرصاصات الثلاث في المنطقة الحساسة، في تلك اللحظات المرعبة كاد الأطباء أن يقطعوا قدمه وذراعه؛ لكنهم تراجعوا في اللحظات الأخيرة، وقرروا وضعه تحت المراقبة المشددة.
كان جسده يقاوم آثار الإصابات القاتلة من أجل البقاء؛ لكن سموم تلك الرصاصات نهشت أعضاءه، وأضعفت مقاومته، وخرًّت قواه، فمكث في المعاناة نحو 12 يومًا فاقدًا للوعي، يقول ابن عمه منتصر: "أصيب محمد في منطقة باب المجمع الشرقي، وذلك أثناء اقتحام قوات الاحتلال لحارة الحبلة في مدينة نابلس يوم الثلاثاء 9 اغسطس 2022 ومحاصرة الشهيدين إبراهيم النابلسي، ورفيقه إسلام صبوح".
توقف منتصر برهة من الوقت عن سرد حكاية إصابة محمد مستذكرًا شيئًا مهمًا ليقول لـ"شمس نيوز": "استفاق محمد من الغيبوبة سائلًا عن المقاتلين الذين حاصرهم جنود الاحتلال في نابلس؟، فعندما علم أن المحاصرين هم إبراهيم النابلسي ورفيقه إسلام صبوح، كرر السؤال بطريقة ذكية، هل تمكنوا من الانسحاب؟، ليجيبه الطبيب أن إبراهيم ورفيقه استشهدا".
عندما علم محمد الحقيقة باستشهاد إبراهيم النابلسي ضرب بيده على رأسه، معبرًا دون إرادة عن حزنه الشديد لاستشهاد النابلسي، حينها طلب الطبيب منه الهدوء، وراح محمد عرايشي في غياب إلى الأبد.
محمد عرايشي (25 عامًا) عاش يتيم الأم، فقد توفيت بعد ميلاده بثلاث سنوات، درس حتى الصف العاشر، وانتقل للعمل في قسم الحراسة والتفتيش ببلدية نابلس حتى استشهاده، يُشير منتصر إلى أن محمد كان شابًا خدومًا، يقدم المساعدة للقريب والغريب دون تردد، آخر همه كان المردود المادي".
معاناة محمد زادت عندما تزوج جميع "أشقائه من الذكور والإناث" واستقر وحيدًا مع والده المصاب بالسرطان في النخاع الشوكي والشلل، فكان خير معين لوالده طيلة السنوات الماضية، رغم سوء الأوضاع الاقتصادية التي عاش فيها.
عاد منتصر لسرد حكاية الإصابة التي تعرض لها محمد حيث قال: "سبحان الله كأن الشهداء يشعرون بأنهم سيفارقون الدنيا، قبل أيام قليلة من إصابته ودون سابق إنذار، قام محمد بتقبيل يد والده وطلب منه السماح والرضى".
"مشهد إصابة الطفل حسين طه وشخصين حاولا إنقاذه، أثار غضب محمد فكان كالاستشهادي الذي قدم روحه ودماءه من أجل الطفل؛ لكن الأقدار شاءت أن يستشهد الاثنان"، كما قال منتصر.
أكثر ما كان يحلُم به محمد هو تأسيس بيت للزواج، لكن ظروفه المادية حالت دون تحقيق هذا الحلم، فقبل لحظات من استشهاده أوصى بدفنه مع والدته الذي لم يلتقِ بها قط.