يتكئ أحمد على مكتبه شارد الذهن، عيناه تتراقصان كالنجوم في ظلمات الليل، ينظر إلى السماء ليُبحر في شريط الذكريات المعلقة في مخيلته، اعتدل في جلسته وأسند ظهره على الكرسي، وفجأة شاهد عصفورًا يرفرف بجناحيه من نافذة المكتب، فتذكر ذاك الطائر الذي رافقه قبل سنوات عدة في زنزانته المظلمة التي أوصدت بسلاسل حديدية؛ لتمنعه من الحرية أو العيش بكرامة كغيره من البشر، فقط لأنه مارس حقه في الدفاع عن بلده وأرضه.
"أحمد الفليت" أحد الأسرى المحررين ضمن صفقة "وفاء الأحرار" (عام 2011)، اُعتقل (عام 1992) بعد تمكنه من قتل مستوطن إسرائيلي في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، وأصدرت محكمة الاحتلال العسكرية بحقه حكمًا بالسجن (99.999.999) عامًا، كانت صدمة قوية ومفاجئة؛ لأن خروجه من السجن على قيد الحياة أصبح أمرًا مستحيلًا، حتى وإن توفي، فإن جثمانه سيبقى محتجزًا في مقبرة الأرقام الإسرائيلية، وإلى الأبد.
تأثرت نفسية الأسير الفليت فور صدور الحكم ضده، فشعر بالخوف؛ لفقدانه الأمل برؤية أهله وذويه، ساعاتٌ قليلةٌ حتى تمكن من ابتلاع الصدمة، ويقول: "هذا قدر الله والحمد لله، ولن أفقد الأمل مطلقًا بانتزاع حريتي من السجان".
استعاد أحمد الثقة بنفسه بسرعة عندما التقى بأحد الأسرى في الزنازين التي وضعت تحت الأرض خصيصًا لما يُطلق عليهم الاحتلال "الخطر"، كان رجلًا كبيرًا في السن وقد بانت عليه علامات الكِبر، إذ أنه اعتقل قبل أن يولد أحمد الذي وصل إلى المعتقل قبل بضعة أسابيع فقط.
"شد حيلك، خليك قوي، اصمد" هذه نصائح مهمة يتلقاها الأسير من زملائه الأسرى القدامى في السجن، فور إصدار حكمِ بحقه من محكمة الاحتلال العسكرية، كان الأسير قد قضى نحو (19 عامًا) يقول أحمد: "عندما علمت السنوات التي قضاها في السجن شعرت بالضعف أمام الإرادة التي يمتلكها هذا الأسير، فتعهد لنفسه بأن يتمسك بتلك النصائح حتى يكسر إرادة السجان".
عاش أحمد الفليت في سجون الاحتلال الإسرائيلي حيث تعلم منها الصبر والإيمان حتى تحقيق الأحلام والطموحات، قائلًا: "الاستسلام للسجان هو قرار شخصي بالإعدام حتى الموت"، بدأ أحمد يبحث في جدران زنازين الاحتلال الرطبة، وساحات الغرف العفنة، والقضبان الحديدية التي يكسوها الصدأ، عن بصيص أمل يرفع من خلاله المعنويات ويتحدى السجان.
لم يجد أحمد سبيلًا في مواجهة السجان؛ إلا من خلال تغيير الروتين اليومي بين الأسرى، فكان يشرد بذهنه إلى ضوء القمر يتفحصه ويترقب اختفاءه، راجيًا من الله تعالى بأن يجعله يتابع تحركات القمر حتى أخر نفس في حياته، كما أن الأسير الفليت كان يهرب إلى الاستمتاع بمشاهدة الطيور وهي تأكل الطعام الذي يلقيه على الأرض.
يتأمل أحمد تناول الطيور للطعام الذي ألقاه من نافذة الزنزانة قائلًا: "كنت أحاول مع الأسرى أن نلقي جزء بسيط من الطعام الذي يبقينا على قيد الحياة أمام النافذة أملًا برؤية الطير حرًا في اختيار الطعام الذي يحبه والمكان الذي يختار النزول إليه.
لم يكتفِ أحمد والأسرى برؤية الطير لكسر الروتين الممل في السجن فقد تمكنوا انتاج زراعة الورد والبصل بداخل علبة صغيرة، كانت تُعيد أحمد وغيره من الأسرى إلى الحقول الزراعية التي سيطر عليها الاحتلال بقوة السلاح.
توقف أحمد عن سرد جزء يسير من المواقف والمشاهد التي من شانها منح الأسير نوعًا من الإرادة والعزيمة وتحدي السجان طيلة الاعتقال داخل السجن؛ لكن أحمد استذكر شيئًا مهمًا قلب حياته رأسًا على عقب.
رفع أحمد رأسه عاليًا وقال: "توجهت لدراسة اللغة العبرية داخل السجن، كي أتعلم وأفهم لغة العدو، وطريقة تخطيطه لقطع الطريق أمامه في أي مواجهة أو معركة قادمة"، وفعلًا حقق أحمد حلمه وطموحه بإتقان اللغة العبرية بشكل مميز جدًا.
تعلُم اللغة العبرية في السجن كان عاملًا مهمًا في تطوير الذات وبناء الشخصية، إذ أن أحمد الذي انتزع حريته بفضل من الله تعالى وبإرادة المقاومين تمكن من فرض نفسه على كافة المؤسسات الحقوقية والقانونية والانسانية والاكاديمية.
عقب الإفراج عن أحمد ضمن صفقة وفاء الأحرار زادت عزيمته واتجه مباشرة إلى تدريب الشباب وتعليمهم اللغة العبرية سواء من خلال المؤسسات القانونية والاعلامية أو من خلال مركز تدريب للغات والترجمات.
أحمد الفليت هو واحد من الأسرى الذين تحرروا من صفقة "وفاء الأحرار" وحققوا انجازات كبيرة في مسيرتهم العملية عقب الافراج عنهم، سواء بافتتاح محلات تجارية أو مكاتب للتدريب والترجمات، أو من خلال تقليدهم مناصب قيادية مسؤولة في بعض فصائل المقاومة أو حتى في الوزارات الحكومية.
وتمكنت المقاومة وعلى رأسها كتائب القسام الذراع العسكري لحركة حماس عام 2011 من تحرير نحو 1037 معتقلًا من معتقلات الاحتلال الإسرائيلي مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، منهم معتقلين من الضفة الغربية أبعدوا إلى قطاع غزة وآخرين أبعدوا إلى تركيا والدول الأوروبية.