تناول عدد من كتاب الأعمدة في الصحف الإسرائيلية وفاة آخر رئيس للاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف بالثناء على دوره العالمي وأهميته بالنسبة إلى إسرائيل. غورباتشوف الذي أمضى السنوات الأخيرة من حياته وحيداً معزولاً في مستشفى في موسكو.
بدا الأمر كعزل مسن لم يكن في وضع صحي جيد بسبب فايروس “كورونا”، لكن في الأشهر الماضية
كان الأمر واضحاً بالفعل، كما عبر عن ذلك في رسالة “واتساب” المتحدث باسم مؤسسة غورباتشوف، بافيل بالاجتشينكو، إذ لخص كل شيء في جملة أن “كل شيء يسير وفق السيناريو الأسوأ”.
واصلت صحة غورباتشوف التدهور، وفي الوقت نفسه حدث ما لا يصدق، بدأت روسيا حرباً دموية ضد أوكرانيا.
“تتطابق العزلة الجسدية بشكل مثير للإعجاب مع العزلة التاريخية التي وجد فيها غورباتشوف نفسه في شيخوخته”. هذا ما ذكرته الصحافية ليزا روزوفسكي في مقال في صحيفة “هآرتس” بعنوان “هل كان غورباتشوف ذَرّةَ وروحَ التاريخ أم عبقرياً سياسياً؟”.
وتسأل الكاتبة ما إذا كان غورباتشوف مجرد ذَرّةَ في روح التاريخ، وليس قائداً أطلق عن وعي ثورة في بلاده.
وتقول: “(لا يمكن تصديقه)، عبارة تتلاشى بسرعة في روسيا. الحرب الهجينة التي شنها الانفصاليون الموالون لروسيا في شرق أوكرانيا منذ عام 2014 بمساعدة ودعم روسيا كانت أيضاً لا تصدق، لكنها سرعان ما أصبحت حقيقة واقعة اعتادها الجميع، من قادة العالم إلى سكان منطقة دونباس نفسها.
من المحتمل أن يكون غورباتشوف قد وجد صعوبة في تصديق مدى الدمار الذي ألحقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالفضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي، وهو المكان نفسه الذي خلقه غورباتشوف عن غير قصد. خيبة أمل آخر زعيم سوفياتي” .
وتضيف، “لكن لا شيء سيغير حقيقة أن غورباتشوف كان بالنسبة إلى الملايين في الاتحاد السوفياتي وخارجه نفساً عميقاً من الهواء النقي. إنه الرجل الذي أعطى الأمل بعد سنوات من الركود”.
وكان يرمز إلى المستقبل. لقد مات بالضبط بعد نصف عام من الحدث الذي أنهى هذا المستقبل. 30 عاماً من الاضطرابات، والانقلابات، والحروب بين الأشقاء والجيران، من الفقر المدقع إلى الثروة الطائلة، ولكن أيضاً “من الحرية والمبادرة والجرأة والمحاولة والتساؤل والإعجاب، انتهت في روسيا بغزو أوكرانيا. انتهت حقبة ما بعد غورباتشوف. لقد حان وقت حقبة ما بعد بوتين”.
مثل غورباتشوف أملاً في تحرير ملايين البشر، كما ساهم في حرمان ملايين الفلسطينيين من التحرر والانعتاق من الاحتلال الإسرائيلي، بل عمق من الظلم التاريخي بحقهم بتعزيز إسرائيل وتغيير وجهها إلى الأقوى.
وفي مقال لرئيس تحرير صحيفة “هآرتس” ألوف بن، سلط الضوء على دور غورباتشوف وإسهاماته الكبيرة في تغيير وجه إسرائيل، وأنه أكثر من أي زعيم آخر في العالم قدم خدمات جليلة ومهمة لها.
ووفقاً لبن، فإن “غورباتشوف صمم وجه إسرائيل الحديثة، وفتح أبواب الاتحاد السوفياتي أمام هجرة اليهود إلى إسرائيل وغير وجه المجتمع الإسرائيلي بشكل جذري”، وذلك مع رأس المال البشري الهائل الذي تدفق الى إسرائيل.
وهذا يوضح أهمية هجرة اليهود (نحو مليون مهاجر)، من الاتحاد السوفياتي في نهاية ثمانينات القرن الماضي، وكانت الأضخم على مدار الهجرات الصهيونية التي بدأت قبل تأسيس (إسرائيل)، وهي التي غيرت وجه دولة الاحتلال لاحقاً إلى زيادة عدد اليهود وخشية الحركة الصهيونية وتحسبها من ما تسميها الحرب الديموغرافية مع الفلسطينيين.
يصف بن تأثير ذلك بأنه “من الصعب تخيل صناعة التكنولوجيا الفائقة ونظام الرعاية الصحية والموسيقى والرياضة وكل مجالات المعرفة الأخرى في إسرائيل، تصل إلى مستويات النجاح والتميز ذاتها. حصلوا على كل شيء بشكل غير مسبوق من مئات آلاف المهاجرين من إمبراطورية غورباتشوف المتهالكة”.
ويضيف، “إلى جانب الميداليات الأولمبية وأرباح التكنولوجيا العالية، غيّر المهاجرون الناطقون بالروسية وجه المجتمع الإسرائيلي تماماً”. “إن انضمام مئات الآلاف من العلمانيين الذين انفصلوا بالقوة عن الدين خلال أيام النظام الشيوعي، إلى الدولة التقليدية التي كانت إسرائيل قبل مجيئه، أضعف سيطرة الدين في المجال العام”.
في إسرائيل هناك ما يسمى حرمة السبت، حيث يمنع اليهود المتدينون المتطرفون (الحريديم) العمل أو فتح المحال التجارية ويمنعون حركة المواصلات في هذا اليوم، ولا تزال المعركة قائمة مع اليهود العلمانيين. إلا أن ما قام به اليهود الروس، أثر كثيراً في هذا المجال.
“تم افتتاح المزيد من المحال التجارية في يوم السبت، وظهرت المطاعم غير اليهودية والملاحم في شوارع المدن. إن الدمج مع العولمة والإنترنت، الذي جعل إسرائيل في ذلك الوقت أقرب إلى الغرب، أعطى الإسرائيليين الليبراليين جيلاً من الحرية النسبية”.
كانت مساهمة غورباتشوف الثانية في العلاقات الخارجية لإسرائيل. عندما تولى غورباتشوف السلطة والوصول إلى رأس الهرم في الكرملين عام 1985، كانت العلاقات مقطوعة بين موسكو واسرائيل، وفي أجزاء كبيرة من العالم لم يرفع العلم الإسرائيلي، في دول الكتلة السوفياتية، في الصين والهند وفي معظم أنحاء العالم، جدد غورباتشوف العلاقات الديبلوماسية مع إسرائيل. وكان شريك الرئيس الأميركي جورج بوش في عقد مؤتمر مدريد الذي جدد عملية السلام قبل أسابيع قليلة من انهيار الاتحاد السوفياتي.
وعلى إثر ذلك، تبعثرت السبحة وأقام الهنود والصينيون أيضاً علاقات ديبلوماسية اتسعت لتشمل عشرات الدول الأخرى.
من مدريد إلى اتفاقيات أبراهام الموقعة قبل عامين، تم كسر العزلة السياسية المفروضة على إسرائيل بعد حرب الأيام الستة (احتلال إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة، وسيناء والجولان، 1967، ويوم الغفران حرب “أكتوبر 1973”).
زار الزعيم السوفياتي السابق إسرائيل للمرة الأولى في حزيران/ يونيو 1992، بعد أشهر قليلة من تقاعده القسري من الكرملين. وتكررت الزيارات إلى إسرائيل، وشارك في “المؤتمرات الرئاسية” التي نظمها صديقه شيمون بيريز رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، وعلى طريقة وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر الذي نصح صديقه رئيس وزراء إسرائيل السابق إسحاق رابين، بتكسير الكاميرا، ومنعها من تصوير الجنود الإسرائيليين وهم يكسرون عظام الأطفال الفلسطينيين عندما اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987.
وفي خطاب ألقاه عام 2003 في كلية نتانيا، حذر غورباتشوف إسرائيل من الاعتماد على قوتها وحدها ضد الفلسطينيين: “عليك أن تفهم أنه في هذا الصراع لا أحد يستطيع أن ينتصر. إذا حاول شخص ما الفوز، فلن نصل إلى أي مكان. إذا كان هناك من يعتقد أن إسرائيل قادرة على هزيمة الفلسطينيين، فهذا ممكن بالطبع عسكرياً، لكن ذلك لن يؤدي إلا إلى دخول الصراع مرحلة جديدة”.
إن تفكك الاتحاد السوفياتي ودفنه، لا يقلان قيمة عما قدمته الولايات المتحدة الأميركية وجميع الرؤساء الأميركيين والدول الأوروبية الغربية والاتحاد السوفياتي من مساهمات جوهرية في تأسيس دولة إسرائيل.