في أثناء دراستي الاكاديمية العليا لنيل درجة الماجستير في تخصص "diplomacy and international relations" الدبلوماسية والعلاقات الدولية كان الأستاذ الدكتور عبدالناصر سرور "حفظه الله" يدرسني مساق منهجية البحث العلمي، ولن أبالغ إن قلت بأن دكتوري الفاضل شكل نبراساً مهماً لي في تنمية مهاراتي تجاه كتابة البحث العلمي والمقالات, وكان محب جداً لطلابه، وله فضل كبير علي لا يمكن نسيانه، المهم أن أستاذي العزيز عبد الناصر سرور لم يفوت أي محاضرة دون التذكير والتأكيد على أبرز سمة من سمات الباحث وهي الحيادية والموضوعية، وكان يؤكد علينا بضرورة أن يبتعد الباحث عن الانحياز لآرائه الخاصة ومعتقداته، ويجب أن يكون موضوعي في مناقشة أبحاثه أو مقالاته، لا أخفي سراً بأنني أجتهد دوماً في تطبيق وصيته، ولكني أنجح مرة وأخفق مرات أكثر في مسألة الحيادية لاسيما عند تناولي لقضية المقاومة، وأجد نفسي منغمساً ومنحازاً بشكل كامل تجاه المقاومة بكل تفاصيلها، فنحن نعيش في كنف هذه المقاومة التي توفر لنا العزة والكرامة والصلابة في مواجهة التحديات، فليعذرني أستاذي الفاضل على عدم تمكني من تطبيق وصيته وملاحظاته بشكل كامل.
كان فجراً لطيفاً يشير إلى طمأنينة هائلة كأنَّ شيئاً ينسكب بجوف أرواحناً ملموساً هادئاَ رقيقاً نرسم به لوحات لوجوه أبطال مع بزوغ الفجر، بدأت الأخبار تتوارد عن انتزاع ستة أسرى حريتهم من سجن جلبوع الصهيوني، هذا الخبر حرك بنا مشاعر لا يمكن أن نقوم بتشخيصها بشكل دقيق، فهذه اللحظات أكبر وأعمق من التعبير عنها، ولم يخطر ببالي في تلك اللحظة إلا المقطع الأول لأروع القصائد التي تتحدث عن السجن "يا ظلامَ السّـجنِ خَيِّمْ إنّنا نَهْـوَى الظـلامَا .. ليسَ بعدَ الليل إلا فجـرُ مجـدٍ يتَسَامى"، حيث جاءت هذه العملية لتذكرنا وتذكر العالم بأن ثورة الابطال داخل السجون لم ولن تستكين على الرغم من كل الأساليب الهمجية التي يفعلها الاحتلال ضدهم.
عندما يحضر الأمل والإيمان وحب المواجهة لا يمكن أن نتخيل شكل المعجزة التي يمكن أن تتحقق, ولذلك لم يكن السادس من أيلول سبتمبر للعام 2021 يوماً عادياً على الشعب الفلسطيني بالعموم وعلى حركة الجهاد الإسلامي بالخصوص، مع ساعات الفجر الأولى، كان كف الجهاد الإسلامي يواجه المخرز الصهيوني، بل وينتصر عليه، بدأت الأخبار تتحدث عن انتزاع ستة أسرى حريتهم من سجن جلبوع المحصن "الخزنة الحديدية"، وذلك عبر نفق تم حفره من إحدى غرف السجن، هذا المشهد شكل صدمة للمنظومة الأمنية والعسكرية والإعلامية الصهيونية، حيث يعتبر سجن جلبوع واحداً من أكثر السجون في العالم تحصيناً على مستوى البنية التحتية والتقنية، ويعتبر أكثر سجون الاحتلال غموضا، حيث لا يُعرف ما يرتكب داخله من انتهاكات في حق الأسرى، ويحيط بأسواره صاج مطلي يستحيل تسلقه عوضاً عن الأسلاك الشائكة، ونصبت على نوافذه قضبان مصنعة من الحديد والأسمنت، وعلى الرغم من كافة هذه التدابير والمعايير التي يتصف بها سجن جلبوع إلا أن الأسير المهندس المبدع محمود العارضة وإخوانه في سجن جلبوع كان لهم رأي آخر، ولم ترهبهم هذه التحصينات، فكان لديهم من الإيمان والوعي والثورة ما يكفي لكسر هيبة الكيان الصهيوني وسحقها تحت أقدامهم، وكانت لديهم قناعة تامة بأن الجبروت الصهيوني الظاهري ما هو إلا أوهن من بيت العنكبوت، فتجسد هذا الايمان عبر صراع الأدمغة وقبضة "كتيبة جنين" في سجن جلبوع التي صنعت المعجزات وتفوقت على كل ما يملكه الاحتلال من إمكانات ومقدرات تقنية والكترونية وبشرية يتباهى بها أمام الضعفاء فيرهبهم، فكتيبة جنين في سجن جلبوع أرادت أن تُظهر للعالم بأنهم على الرغم من وجودهم داخل زنازين الاحتلال إلا أن ذلك لن يمنعهم من مواجهة كيان مدجج بأقوى أنواع الأسلحة، فكان محمود العارضة واخوانه يناطحون العراقيل، ويحفرون الصخر بأظافرهم، وبعقولهم الذكية المتوثبة التي كانت ترسم بحنكة معالم فجر جديد، فروضوا المستحيل، وجعلوه يركع امامهم مقدماً فروض الطاعة والولاء، فلقد كانت عصارة جهدهم مرحلة ومحطة فاصلة في تاريخ شعبنا أعادت روح المقاومة وزخمها للضفة المحتلة من جديد، فأنتجت أطهر حالة ثائرة وهي "كتيبة جنين العسكرية" التي شكلت أيقونة للعمل المقاوم في الضفة المحتلة، وتوسعت وامتدت نحو تشكيل كتيبة نابلس وكتيبة طولكرم وكتائب أخرى على غرار كتيبة جنين, ولذا يمكن القول بأن كوادر الجهاد الإسلامي والمقاومة داخل السجون لم يعدموا الوسيلة لتحرير أنفسهم من ظلم السجان, والايمان بقدرة الله ومن ثم قدرة الأسرى بتحقيق المستحيل هو العنوان الأبرز الذي يجب على الأسرى أن يضعوه أمامهم في كل وقت وحين.
عقب عملية انتزاع الحرية اتبعت مصلحة السجون في كيان الاحتلال حملة ممنهجة ومنظمة ضد كوادر وأبناء حركة الجهاد الإسلامي، وذلك في محاولة لكسر صمودهم وثني إرادتهم، واستخدمت خلال ذلك العديد من الانتهاكات والإجراءات العقابية بحقهم، أبرزها الإهمال الطبي والاعتداء عليهم وتجاهل مطالبهم، فضلاً عن استخدام سياسة العزل ضد قيادات وكوادر الحركة، وحرمانهم من أبسط الحقوق الإنسانية، وعلى الرغم من الإجراءات والانتهاكات الواسعة إلا أن ذلك لم يزيد أسرى الجهاد الإسلامي إلا قوة وصلابة وعنفواناً، معتمدين بشكل رئيسي على ما يملكوه من إيمان ووعي، وعلى القوة التي تساندهم من خارج السجون ممثلة بقيادة المقاومة وتحديداً سرايا القدس, ومن المهم القول بأن القوة الداعمة للأسرى والمقصود هنا القوة العسكرية التي تقوم بها المقاومة خارج السجون وتصريحات الأمناء العامون وقادة الفصائل والتركيز على قضية الأسرى يمنح الأسرى المزيد من القوة والتحدي للاحتلال داخل السجون, وقد كان هذا واضحاً خلال تحذير حركة الجهاد الإسلامي في أكثر من مناسبة رداً على الاحتلال بخصوص مواصلة انتهاكاته ضد الأسرى بشكل عام وأسرى الجهاد الإسلامي بشكل خاص، حيث قال الأمين العام للحركة المجاهد زياد النخالة في تصريح سابق بأن الحركة تقف بكل جدية عند هذه العناوين الكبيرة ولن تقبل بهذا الاذلال المستمر، وهذا يؤكد بأن قضية الأسرى لا تقل بأهميتها عن أي من القضايا والعناوين الكبيرة التي تضعها الحركة على سلم أولوياتها.
تأتي الذكرى السنوية الأولى لانتزاع الحرية من سجن جلبوع مواكبة لأحداث مهمة لا يمكن فصلها عن الفعل المقاوم الذي قام به الأسرى قبل نحو عام، وتتزامن الذكرى مع نفحات وتداعيات معركة وحدة الساحات التي جاءت لتؤكد على وحدة الميدان والساحات، بحيث كان العنوان الأبرز لمعركة وحدة الساحات هم الأسرى, حيث شكل اضراب الأسير خليل عواودة عن الطعام لأكثر من 160 يوم على التوالي ومن ثم قيام الاحتلال باعتقال الشيخ بسام السعدي والاعتداء عليه بهمجية حين اعتقاله, كان ذلك حاضراً لدى حركة الجهاد الإسلامي لتؤكد وتربط بين تصريحاتها وأفعالها في الميدان, وحين قالت أنها تقف بجدية أمام العناوين الكبيرة كالأسرى, هي صدقت في ذلك وترجمتها عملياً خلال معركة بطولية قادتها سرايا القدس ومعها قوى المقاومة، والتي كانت مقدمة للملحمة البطولية التي خاضها كوادر الجهاد الإسلامي داخل السجون الصهيوني لمواجهة العنجهية والبلطجة التي يمارسها الاحتلال ضدهم، حيث شكلت الخطوات التي قام بها كوادر الحركة محطة فارقة في قدرتهم على انتزاع حقوقهم رغم أنف الاحتلال، وعلى عكس التنبؤات الصهيونية فإن الاجراءات العقابية تجاه كوادر الجهاد الإسلامي قد فشلت، وتمكن كوادر الحركة من تحويل التهديد والتحدي إلى فرصة، وذلك عبر تثوير السجون في وجه مصلحة السجون الصهيونية، وبالتالي إبقاء حالة تأهب مستمرة لديهم، وهذه الحالة لم تقتصر على السجون فحسب بل امتدت نحو تصدير الثورة إلى خارج السجون، لاسيما في مدن الضفة التي أصبحت تنتفض على وقع حالة الصمود والتحدي التي يقوم بها كوادر الجهاد الإسلامي داخل السجون، حيث شكل كواد الجهاد الإسلامي داخل وخارج السجون أيقونة وشعاع أمل لكل المؤمنين بالمقاومة والمواجهة, وهذا الأمر لم يكن من السهولة أن تصل إليه الحركة بهذا الشكل إلا عبر دماء قادتها وكوادرها وتضحياتهم داخل وخارج السجون, مما خلق حالة تفاعل والتفاف واسع من الحاضنة الشعبية تجاه الحركة وقيادتها لأنهم شعروا بوجود حركة صادقة في أقوالها وأفعالها.
لا نبالغ إن قلنا بأن حركة الجهاد الإسلامي التي كان لها الفضل الأول في اندلاع انتفاضة الأولى عقب معركة الشجاعية في السادس من أكتوبر 1987، وذلك كما وصف الخبير الاستراتيجي "روبرت ساتلوف" الذي يشغل منصب المدير التنفيذي لمعهد واشنطن منذ عام 1993 حتى الان، حينما قال أهم العوامل التي تفسر نشوء الانتفاضة هو أثر المواجهة الكثيفة بين السلطات الإسرائيلية والجهاد الإسلامي في غزة في الأسابيع الأولى التي سبقت 9/12/1987، وكذلك في قراءة اندلاع انتفاضة القدس في أكتوبر 2015 فإننا نرى بأن الشهيد مهند حلبي مفجر الانتفاضة هو أحد كوادر الجهاد الإسلامي، اليوم تعيد حركة الجهاد الإسلامي المشهد من جديد ولكن بطريقة أكثر إبداعاً وتطوراً، حيث استطاع أسرى الجهاد الإسلامي خاصة منفذي انتزاع الحرية من سجن جلبوع أن يكتبوا فصلاً جديداً في تاريخ شعبنا وقضيتنا عبر منح الأمل واليقين بأن شعبنا قادر على المواجهة مع الاحتلال، فكيف لا؟ وهم واجهوا الاحتلال من داخل السجن وانتصروا عليه وأهانوا هيبته العسكرية والأمنية أمام العالم، فكيف هو الحال لمن هو خارج السجن, ولهذا المطلوب أن يأخذ كل منا مكانه ودوره في هذه المرحلة, وشبابنا بالضفة عليهم أن يسيروا على نهج مهند حلبي, ويأخذوا العبرة من أسرى جلبوع الذين قهروا المستحيل, أنتم تشاهدوا جنود ومستوطني الاحتلال وجهاً لوجه وليس أمامكم سوى أن تقاتلوهم بكل ما أوتيتم من قوة بحجر وسكين وقنبلة وكارلو ومسدس وبكل ما تملكوا, فالاحتلال الذي يمزق الضفة ويحولها من مدن إلى كانتونات وروابط القرى, أنتم مطالبون اليوم الى الاستئناس بمسيرة وبطولة أسرى جلبوع وأن تكونوا على مستوى الحدث الذي قاموا به, هم فعلوا ذلك ليشعلوا نار الثورة, والنار اليوم تتسع, والمطلوب أن يزداد حريقها في كل بقعة من مدن ومخيمات الضفة بوجه الاحتلال.
كتب الأسرى (محمود العارضة – يعقوب قادري – زكريا الزبيدي – محمد العارضة – مناضل نفيعات – أيهم كممجي) مرحلة فاصلة في تاريخ شعبنا تكتب بمداد الفخر والاعتزاز تجاه فعلهم الأسطوري الذي سيسجل بالتاريخ بأنه المسبب الرئيسي لما نشاهده اليوم من تصاعد العمل المقاوم بالضفة المحتلة بعد أن تلاشى وتراجع العمل المقاوم لأكثر من عقد كامل في الضفة المحتلة، حيث واكبت عملية الفرار من سجن جلبوع عملية تفاعل بارز ولافت قامت بها قيادة حركة الجهاد الإسلامي وسرايا القدس بالتعاطي مع الحدث الكبير عبر تعزيز ومساندة كل فِعل مقاوم يساهم في تثوير الضفة التي يعجز اليوم قادة الاحتلال عن قراءة وتحليل ما يجري بها، باعتقادي نحن ما زلنا في بداية الطريق، وحركة الجهاد الإسلامي التي تؤمن بأن الكف يمكن له أن يواجه المخرز، وتنشد فكرة المقاومة والمواجهة والمشاغلة لازال في جعبتها الكثير، وهي قادرة بلا شك على ذلك بكل قوة واقتدار.