غزة

19°

وكالة شمس نيوز الإخبارية - Shms News || آخر أخبار فلسطين

القصة من الألف إلى الياء

بالصور "فسيفساء البريج".. "الصدفة" تكشف كنزاً أثرياً نادراً في غزّة

فسيفساء
شمس نيوز - عبد الرحمن عسلية

أثار اكتشاف (فسيفساء البريج) تساؤلات عدة عن واقع الآثار في قطاع غزة، وكيف يتم اكتشافها والمحافظة عليها؟ في وقت يقدر مؤرخون وخبراء بأن قطاع غزة غني بآثار كثيرة لم تطلها يد التنقيب حتى الآن.

لم يدرِ المزارع الفلسطيني سليمان النباهين أن هذا الصباح سيكون مختلفاً عن سابقيه، وأنه سيقوده إلى حدثٍ كبير يغير من عاداته وأسلوب حياته اليومية. النباهين الذي يملك قطعة أرض مساحتها 450 متراً مربعاً شرق منطقة البريج وسط قطاع غزة، يسبق أشعة الشمس في طلوعها، ويسابق الطير في طلبه للرزق، وتختلط قدماه بطين الأرض، التي ورثها عن والده، يتعاهد أشجاره ودواجنه بالسقاية والرعاية والاهتمام كل يوم.

ومع اقتراب موسم جني الزيتون لاحظ النباهين أن أشجاره بطيئة النمو قليلة الثمار، فحاول رشها بالمبيدات والمقويات العضوية، لكن دون جدوى، فقرر مع نجله محمد الحفرَ أسفل جذورها علّه يتعرف على أساس المشكلة. هرع النباهين على صوت ابنه محمد، الذي اصطدم معوله بجسم صلب قرب جذور إحدى أشجار الزيتون بعمق نصف متر تقريباً في الأرض، وبقليل من التوسع بالحفر؛ فوجئ النباهين بحجارة ملونة، متقاربة الحجم، تتخذ أشكالاً هندسية وحيوانية، فأيقن حينها أنه أمام معلَمٍ أثريٍّ من معالم الحضارات القديمة.

مفاجأة مدهشة

يقول النباهين لشبكة شمس نيوز: "كنت أحفر، أنا وابني محمد، ببطيء وبحذرٍ شديدين، مستخدمين معدات الزراعة البسيطة؛ لأننا لا نود أن نفسد هذا الأثر التاريخي المهم، فتكشفت لنا الكثير من التفاصيل؛ من بينها صور حيوانات وطيور وأشكال هندسية متصلة رائعة الجمال."

ويضيف النباهين: "كنا نسمع من قديم عن وجود حضارات في هذه المنطقة، لكني لم أتخيل أن تخفي أرضي تحتها هذا المعلَم الأثري المهم، وفوراً أبلغتُ الجهات المعنية بما رأيت، وصرت أمكث كل يوم فيها أستقبل الزوار والمهتمين؛ من صحفيين وخبراء آثار ومسؤولين؛ لقد أصبحت أرضي حديثَ الساعة."

معلم تاريخي فريد

فور انتشار الخبر توافد مسؤولون وخبراء آثار وصحفيون إلى المكان، فأدركوا أنهم أمام موقع أثري قد يكون من بقايا كنيسة بيزنطية قديمة، كما تدل الشواهد من الرسومات والأشكال الهندسية التي تميز تلك الفترة.

خبير الآثار د. ناصر اليافاوي، الذي يعمل داخل وزارة التربية والتعليم في غزة، يقول لشبكة شمس نيوز: "من المرجّح أن يعود هذا الموقع لكنيسة بيزنطية بناها عدد من الرهبان والكهنة من مصر قدِموا إلى المنطقة بداية القرن الخامس الميلادي، ومارسوا فيها طقوسهم حتى بداية الخلافة العباسية؛ وهي شاهد على ازدهار بناء الكنائس في تلك الفترة، كما أن صور الحيوانات والطيور؛ كالإوز والبط والثعالب والأرانب، شاهد على طبيعة الحياة الاجتماعية في تلك الفترة."

ويضيف اليافاوي: "إن منطقة شرق وادي غزة شاهدة على عديد الحضارات، وهي مليئة بالكثير من الآثار أغلبها مطموس تحت التراب، خاصة من الفترة البيزنطية، التي امتدت بين القرنين الرابع والسابع الميلاديين،أناشد المسؤولين والمؤسسات الدولية المعنية بالتراث والآثار؛ مثل اليونسكو وغيرها، بضرورة الاهتمام بالآثار في غزة ورعايتها، وتأهيلها؛ حتى تصبحَ مصدر جذب للزوار والسياح؛ ما يسهم في ازدهار المنطقة اقتصادياً."

متابعة حكومية

وزارة السياحة والآثار في قطاع غزة في بيان لها أكدت أن الكوادر الوطنية بالوزارة عملت بشكل يومي فور التبليغ عن الكشف الأثري منذ ما يزيد عن شهر على التعرف عن كثب حول ماهيته وشواهده، وإعداد الدراسات التاريخية من واقع المظاهر السطحية والمقتنيات الأثرية المستخرجة من الموقع وفق الطرق العلمية، وقد عملت الطواقم الفنية على تحديد امتدادات الموقع وأبعاده بحفر10 مجسات علمية تبرز من خلالها معرفة التفاصيل للمكان وآلية سير العمل والمدلولات الحضارية، والتي تعد مقدمة وبداية للتنقيب الأثري الشامل للموقع المكتشف.

وقال مدير العلاقات العامة والإعلام في الوزارة طارق العف: "إن نتائج الاكتشاف الأولية للموقع تشير إلى العثور على أرضيات فسيفسائية، وأيقونات وصور لحيوانات تعود للعصر البيزنطي، وأرضيات فسيفسائية هندسية، وأدوات فخارية وزجاجية، وبقايا معالم لجدران أثرية. إن طواقمنا تعمل بالشراكة مع خبراء وعلماء آثار فرنسيين؛ لمواصلة البحث عن تاريخ الموقع، والحقب التاريخية التي مرت على قطاع غزة، مع العلم أن العناية بالآثار تتطلب عدداً كبيراً من الكوادر والخبراء، ودعماً مادياً كبيراً، وهو ما تفتقده الوزارة حتى الآن."

الفسيفساء .. فن وجمال

من جانبه أبدى الفنان الفلسطيني د. ناصر المجايدة دهشته وإعجابه برسومات الكائنات الحية في فسيفساء البريج، التي نقلت لنا صورة حية عن طبيعة الحياة في تلك الفترة من التاريخ، حيث جسد الفنان البيزنطي صور طائر اللقلق الذي يبشر بموسم الشتاء، وبعض صور الحيوانات والطيور الداجنة، مثل الكلاب والبط والإوز وغيرها، التي تفيد بازدهار الأوضاع المعيشية حينها"

 ويوضح المجايدة: "هذه الرسومات والأشكال دليل على ازدهار بناء الكنائس في العصر البيزنطي، ودليل على براعة الفنان البيزنطي ومهارته في إدراك درجات الألوان والتوليف بينها؛ للخروج بأجمل تجسيد ممكن للكائن الحي."

الجدير بالذكر أنه لا توجد جهود حقيقية للتنقيب على الآثار في غزة، سواء من المؤسسات الرسمية الحكومية، أو من الهيئات الدولية المعنية بالتراث والحضارة؛ مثل اليونسكو، والمدرسة الفرنسية للآثار، وغيرها، أسوة بمثيلاتها من الجهود التي تُبذل في الضفة الغربية. كما أن غالب هذه الاكتشافات يعثر عليها المواطنون بمحض الصدفة أثناء أعمال البناء أو الزراعة؛ ما يعرض هذه الآثار في كثير من الأحيان لأضرار جسيمة من معدات البناء، أو جراء السيول.

تجدر الإشارة إلى أن فسيفساء البريج في خطر شديد؛ نظراً لقربها من السياج الحدودي لقطاع غزة، ما يفاقم القلق من المحافظة عليها، أخذاً بالاعتبار أن كثيراً من المواقع الأثرية في قطاع غزة تعرضت للقصف من قبل الاحتلال الإسرائيلي في الحروب التي شهدتها المنطقة في السنوات القليلة الماضية؛ مثل الكنيسة البيزنطية في جباليا، وكنيسة أصلان في بيت لاهيا، واستغرقت وقتاً طويلاً في ترميمها وإصلاحها.