يركض الطفل أنس يمنةً ويسرةً والفرحة تعلو شفتيه، يحملُ بين يديه دَلْواً مليئاً بحبات الزيتون، وعلى وجنتيه ترتسم علامات الشقاء والعناء التي لا يأبه بها، فاليوم يوم فرحةٍ، ويوم حصاد، فلا مشكلة بالملابس المتسخة، ولا مشكلة أيضاً من قطرات العرق التي تتصبب كنهرٍ جارٍ، أنس لم يكن وحيدًا فقد كان جمع من الصبية، يرافقهم جمع من الرجال والنساء، في احتفالية قطاف الزيتون.
عقارب الساعة كانت تُشير إلى السابعة صباحًا عندما وصل أبو شريف حاملًا بين ذراعيه فراشاً خاصاً، وأبناؤه كانوا يحملون السلالم؛ ليساعدوهم في قطف ثمار الزيتون ذات الأغصان المرتفعة، لحظات حتى وصل أبناء عمومتهم، ويعتبر تجمع العائلات الفلسطينية واحدا من الطقوس الخاصة لقطف الزيتون كل عام، مستذكرين نعمة الله عز وجل بتلك الثمرة التي حباهم إياها، إضافة إلى تذكرهم لأجدادهم الذين تركوا لهم "البترول الأخضر"، كما يحبون أن يصفوه.
تحاول عائلة أبو شريف قطف ثمار الزيتون من نحو (20 شجرة زيتون) خلال يوم واحد، إذ تتجاوز مساحة زراعة الأشجار (الدونم مربع)، يقول أبو شريف: "نجتمع كل عام على سفرة طعام واحدة؛ لنبدأ موسم قطف الزيتون بجد ونشاط؛ فهذا يوم ممتع وجميل، يقضيه أفراد العائلة بين أشجار الزيتون، يتفيّؤون ظلالها، وينهلون من خيراتها".
مشهد التعاون والتعاضد خلال موسم قطف الزيتون يتكرر كل عام وسط أهازيج التراث الشعبي، إذ يغني أحدهم: "على دلعونة وعلى دلعونة، بارك يا ربي شجر الزيتونا، زيتون بلادي ما أزكى حباتة، ما أحلى شكلة وما أغلى زيتاتة، والعالم كلة يرغب أكلاته، الحبة منة أحسن ما يكونا"، ويتفاعل الجميع مع هذه الأهازيج؛ لتدب فيهم الرغبة في العمل والنشاط.
ويظهر خلال طقوس قطف الزيتون، مدى التعاون والمحبة بين أبناء العائلة، إذ تتنافس الأسر بتقديم المشروبات والطعام في الخلاء، ليستعيد أفراد العائلة نشاطهم في قطف الثمار مرة أخرى بعد ساعات من العمل الشاق.
وعن حصاد الزيتون هذا العام قال أبو شريف: "موسم الحصاد هذا العام وفير والكمية تجاوزت العامين الماضيين، وبلغت نحو (600 كيلو أي 200 رطل) زيتون"، لكنه أشار إلى أن كمية الزيت كانت ضئيلة.
ولفت إلى أن كل رطل زيتون أنتج (340 جرام زيت) وهذه كمية قليلة مقارنة بالعديد من العائلات التي أنتج لهم الرطل نحو (500 جرام)، معللًا السبب إلى شح الأمطار وملوحة التربة.
وتتباين رغبات العائلات الفلسطينية، فيما بين تخزين الزيتون أو تحوله إلى زيت -وهم أغلبية-، هنا يُشير أبو خالد إلى أنه يحول الكمية التي يحصل عليها من الزيتون إلى زيت باعتبار زيتها طبيعي 100%، مبديًا عدم ثقته المطلقة بالزيوت التي يتم شراؤها من المحال التجارية.
ويستخرج الفلسطينيون من الزيتون الحطب للدفء في الشتاء، إذ يعمل "أبو محمود" خلال يوم قطف ثمار الزيتون على تقليم الشجر، يقول: "إن موعد التقليم الصحيح لشجرة الزيتون يبدأ مباشرة فور الانتهاء من قطف ثمار الشجرة".
ويعتمد "أبو محمود" على خبرته البسيطة في تقليم أشجار الزيتون، مشيرًا إلى أنه يحاول قص الأغصان الشاذة عن الشجرة؛ بهدف تقوية الأغصان المرتفعة عن الأرض، والاستفادة من الحطب بتخزينه للتدفئة في فصل الشتاء.
وخلال عملية قطف ثمار الزيتون تستذكر "أم سليمان" (40 عامًا) بعضًا من القصص القديمة التي جمعتها في مواسم سابقة مع الأجداد، لتقول: "كانت أجواء جميلة وممتعة، فقد كنا ننتظر على أحر من الجمر موسم الزيتون؛ لنجتمع وننُشد التراث الشعبي، ونأكل مع بعضنا البعض"، مشيرة إلى أن الفرحة التي يعيشها الطفل أنس ورفاقه الأطفال هذا الموسم هي نفسها التي كانت تعيشها مع الأجداد رحمهم الله.