يعتبر قيام "دولة" الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين عام 1948 تتويجاً لصراع كوني حضاري ظلَّ يتفاعل إلى أن جاءت اللحظة التاريخية لظهور هذا الكيان الغاصب وتهجير أهل فلسطين وحدوث النكبة الفلسطينية، والتي ستظل في ذاكرة الفلسطينيين والعالم على مدار التاريخ.
هل "إسرائيل" هي إسبرطة القرن العشرين؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، لا بد من وصف "إسرائيل" وجيشها واعتمادها على القوة العسكرية، لنقارن بينها وبين إسبرطة. وقد اخترت إسبرطة للمقارنة لأنها من أقدم الدول التي اعتمدت على الجيش فقط، حتى إنها كانت تتخلص من الأطفال الضعفاء، فترميهم من فوق الجبال ليبقى الطفل القوي الذي ينشأ تنشئة عسكرية خاصة فقط، و"إسرائيل" منذ بداياتها أنشأت الهاغاناه، نواة الجيش الصهيوني، من المقاتلين والجنرالات الذين خاضوا غمار الحرب العالمية الثانية مع الحلفاء ضد ألمانيا النازية وهتلر. هذه النواة من الهاغاناه اعتمدت على القتل الفج والمستمر للشعب الفلسطيني والشعوب العربية المساندة له.
بالعودة إلى المقارنة، كانت دولة إسبرطة اليونانية نظاماً يقوم على القوة العسكرية. هذا النظام كان يحكمه العسكر، كما يحصل في الكيان الصهيوني اليوم، وكانت إسبرطة ذات أهداف توسعية دائمة، مثل الكيان الصهيوني اليوم، وكانت الحرب هي وسيلة الكسب والردع، مثل الكيان الصهيوني اليوم، وكان تعظيم العمل العسكري في المجتمع الإسبرطي هو الأساس، مثل الكيان الصهيوني اليوم، وكان الجيش وجنوده في أعلى درجات السلّم الاجتماعي، مثل الكيان الصهيوني اليوم، ونشأ عن ذلك ظهور نظام الحاميات الأسبرطية، كما المستوطنات اليوم، وعملت حكومة إسبرطة على إرسال كتائب مسلحة في عدد من المدن اليونانية التي احتلتها، كما تفعل فرق "الجيش" الإسرائيلي اليوم، التي احتلَّت الجولان السوري وسيناء المصرية والضفة وغزة وجنوب لبنان. وقد كانت النساء تتدرب على الحرب، كما تتدرب نساء "إسرائيل" اليوم.
"الجيش الإسرائيلي" هو جيش إسبرطي حديث وبامتياز، وهو جيش مختلف عن كل جيوش العالم، إذ نجد في العالم أنَّ الدول هي التي تبني الجيوش، وكل جيش يعكس طبيعة الدولة التي أنشأته، بمعنى أن الجيش المصري يعكس الطبيعة المصرية؛ طبيعة الشعب المصري الذي صنع الدولة التي صنعت الجيش المصري، والأمر نفسه مع الجيش اللبناني والجيش الفرنسي... وهكذا كل جيوش العالم.
والمفهوم الإسبرطي ليس المفهوم الوحيد في "العسكرتاريا"، فهناك نماذج متعددة ظهرت في التاريخ، ولكنني اخترت النظام الإسبرطي لأنه من أقدم النظم العسكرية في التاريخ لمقارنة "إسرائيل" به، والسائد في "إسرائيل" هو نظام العسكرتاريا بكلّ ما تعني الكلمة، فالجيش هو عنصر التماسك الوحيد فيها، وهذا الخليط الإنساني في "إسرائيل" لا يجمعه إلا الجيش، وهذا الجيش يمارس أقصى درجات العنف ضد الفلسطينيين والعرب؛ ففي مصر قتل الأطفال في مدرسة "بحر البقر". وفي لبنان، قتل الأطفال وذويهم في قانا، وكذلك في سوريا وتونس والإمارات وماليزيا وإندونيسيا، وأينما وجد الفلسطينيون أو من يؤيدهم، فإن هذا الجيش يلاحقهم ويقتلهم ويختطفهم، وحادثة ماليزيا (محاولة اختطاف فلسطيني) قبل أيام لن تكون الأخيرة.
هذا الجيش يحتل ويتوسع، فمنذ قيام "دولة" الاحتلال عام 1948، سأل رئيس الوزراء حينها بن غوريون رئيس أركان جيشه الجنرال لاسكوف، وهو بولندي حارب مع الجنرال الإنكليزي مونتغومري في حرب الصحراء ضد الجنرال روميل الألماني في الحرب العالمية الثانية في صحراء ليبيا، عن حدود تقسيم فلسطين إلى 3 كيانات جديدة: أول كيان هو دولة عربية تبلغ مساحتها نحو 4300 ميل مربع (11000 كـم 2)، ما يمثل 42.3% من فلسطين، وتقع على الجليل الغربي، ومدينة عكا، والضفة الغربية، والساحل الجنوبي الممتد من شمال مدينة أسدود وجنوباً حتى رفح، مع جزء من الصحراء على طول الشريط الحدودي مع مصر، والكيان الثاني دولة يهودية تبلغ مساحتها حوالى 5700 ميل مربع (15000 كـم2)، ما يمثل 57.7% من فلسطين، وتقع على السهل الساحلي من حيفا وحتى جنوب "تل أبيب" والجليل الشرقي، بما في ذلك بحيرة طبريا وإصبع الجليل، والنقب، بما في ذلك أم الرشراش أو ما يعرف بإيلات حالياً. أما القدس وبيت لحم والأراضي المجاورة، فتوضع تحت وصاية دولية لمكانتها الدينية.
أجاب الجنرال: "حدود الدولة اليهودية حدود ضيقة، ولا أستطيع الدفاع عنها، والأفضل أن نجتاح كل فلسطين، وخصوصاً حدود الدولة العربية". كانت هذه الكلمات إشارة إلى أن قادة "الجيش" يرغبون في اجتياح أراضي الدولة العربية وفق قرار 181 الصادر عن مجلس الأمن الدولي. هذا النظام ظلّ يعتدي، وما زال، لتوسيع دولته التي لم توضح حدودها حتى اليوم.
هل هذا التوجه العسكري هو الذي سينهي هذا الكيان الصهيوني؟
يقول المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي: "إن ذبول الدول والحضارات وموتها قلما تجيء عواملُه من خارج الحدود، إنما تجيء تلك العوامل دائماً من داخل الحدود". هذه الحقيقة المؤكدة هي سمة الحياة للأفراد والجماعات والدول على حدٍّ سواء، وإسبرطة وكل الدول التي قامت على القوة العسكرية وتمجيدها انتهت إلى زوال.
إن التناقضات الموجودة في "دولة" الكيان تبشّر بانهياره من داخله، فالعسكرة المطلقة والقتل ونفي الآخر الفلسطيني لن يفيد، فالمجتمع الصهيوني لا يملك حصانة ضد الانهيار والتفتت الداخلي، فهو مجتمع مكون أصلاً من فسيفساء غير متجانسة لأقليات يهودية وصهيونية تحمل في داخلها رغبة دفينة في العودة إلى مواطنها الأصلية، ولم تعد فكرة "صهيون" ومشاعر الأرض المقدسة ذات جاذبية لها.
وقد حذر يوفال ديسكن، رئيس جهاز الأمن الإسرائيلي السابق (الشاباك)، من انهيار الدولة وتفكك المجتمع، إذ يقول: "إن وجود الشعب الإسرائيلي وحصانته يبدآن بإحساس الهوية القومية والاجتماعية المشتركة، التي تتشكل من الإحساس بوحدة المصير بين أطيافه المختلفة، ومن الإيمان بعدالة الطريق، وكذا من السير خلف زعامة جديرة وموحدة تبث رؤية وقدوة شخصية. للأسف، نحن نفقد قاسمنا المشترك الأكثر أساسية، لأن زعامتنا البائسة تُعنى منذ سنين بالانقسام وبغرس الكراهية بين أطياف الشعب، وتلحق ضرراً جسيماً بإحساسنا بوحدة المصير المشترك. لذلك، ينتابني شعور بالخطر على هذه الدولة وبقائها".
ديسكن ليس الوحيد الذي أبدى مخاوفه، بل إن كثيراً من زعماء "دولة" الاحتلال أبدوا مخاوف شبيهة، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر إيهود باراك وبنيامين نتنياهو، رئيسا الوزراء السابقان، وغيرهما الكثير.
في القرن الخامس قبل الميلاد، كانت إسبرطة دولة عسكرية بكل ما تعني الكلمة، فكل شيء في الدولة مكرّس للجيش، وكانت أثينا منارة للثقافة والحضارة، فما كادت المدينتان تتلاقيان في ساحة الحرب حتى حققت إسبرطة العسكرية نصراً على أثينا، ولكن كم بقيت أثينا في تاريخ الحضارة الإنسانية؟ وكم بقيت إسبرطة؟
بقيت أثينا منارة للحكمة والثقافة والحضارة على مدار التاريخ، وانتهت إسبرطة، وظلت مثالاً لزوال الدول التي تعتمد على العسكر من دون الاهتمام بالنواحي الثقافية والحضارية والإنسانية. إنَّ ما كان بين إسبرطة وأثينا من اختلاف النظر والتكوين قريب جداً مما هو اليوم بين العرب و"إسرائيل".
إن أكبر رموز المجتمع الإسبرطي هو النُصب التذكاري لاكيدمونيوهو لتخليد ذكرى الجنود الذين قتلوا في حروب إسبرطة، وضريح الماسادا في "إسرائيل" هو نسخة طبق الأصل من النُصب التذكاري لاكيدمونيوهو، فالماسادا يخلد 960 يهودياً آثروا الموت على الاستسلام للرومان، وهو المكان الذي يقصده الضباط والجنود في "جيش" الاحتلال الإسرائيلي ليقسموا عنده بأنهم لن يستسلموا أبداً. إذاً، "إسرائيل" اليوم هي إسبرطة الأمس، وإن اختلفت التفاصيل، وتنوعت الأسماء.
إن أبطال فلسطين ومحور المقاومة في غزة والضفة، وعرب فلسطين المحتلة، والفلسطينيين في الشتات في لبنان وسوريا والأردن وكل بقاع الأرض، وما يدور في القدس والضفة المحتلة؛ ضفة كتيبة جنين وكتيبة نابلس وكل الكتائب المقاومة في هذه الثورة المسلحة التي تجتاح ضفة الشهيد فتحي الشقاقي في ذكراه، وعدي التميمي، وإبراهيم النابلسي، وكل الشهداء رحمهم الله، وضفّة الشهيد قاسم سليماني الذي أحب فلسطين، وعمل على إيصال السلاح إلى غزة والضفة، لتقوم الثورة المسلحة فيهما، وتشتعل الأرض تحت أقدام المحتلين، وضفة أبو رعد خازم، وضفة المقاتل المغوار زياد النخالة القائل: "نحن نذهب إلى القتال كما نذهب إلى الصلاة"... كل هؤلاء الأبطال سيعجّلون انهيار هذه الدولة.
ستسقط "إسرائيل" كما سقطت إسبرطة، وستبقى فلسطين بحضارتها وحكمتها وصبرها منارة للثقافة والعطاء، وقبلة لكل المؤمنين والشرفاء، كما كانت في سيرتها الأولى قبلة لرسول الله (ص) وقبلة للمسلمين.