ما الذي يدفع كيان الاحتلال للمغامرة بإرسال قوة خاصة "سيرت متكال" الى عمق قطاع غزة والإقامة فيه؟، ما هي المعلومات والمهمات التي كان ينتوي تنفيذها أو نفذها؛ عندما وقعت عملية حد السيف في الحادي عشر من نوفمبر عام 2018. بالطبع كثيرة هي التساؤلات وكلها مشروعة. ولكن هل توقفت الدوافع والأهداف والمهام أم اسُتبدلت الأدوات؛ وبدلا من المغامرة والمقامرة بالقوة الخاصة على الأرض تأتي الينا المعلومات على الخاص. نعم هذا عين أحد السيناريوهات الحاصلة وبالشواهد.
صادفت على أحد مواقع التواصل الاجتماعي - فيسبوك - اعلان ممول هذا نصه: " بدلًا من الاحتفال بليلة زفافهم أو في حفل تخرجهم في الجامعة إلا أنكن تقعدن اليوم في خيمة التأبين فالأمهات.. الأمهات لهن القوة العظيمة.. للاجتهاد من أجل مستقبل أفضل لأولادهن فاجتهدي! كل شيء للحفاظ على حياتهم". قد يبدو النص للوهلة الأولى عادي أو نصيحة محب او همسة حريص، لكنه في الحقيقة طرد مفخخ، وفي العادة تأتي الطرود المفخخة بظاهر جميل ووديع، فمصدر هذا النص هو صفحة "المُنسق". وتوقيته في الليلة التي ترجل فيها الشهيد محمد الجعبري منفذ عملية الخليل، وفي أسفل النص وضع "المنسق" صورة تجمع أمهات الشهداء في أحد بيوت العزاء. حصلت على ألف اعجاب ولا أدرى هل كان الاعجاب بالنص ام بالصورة ام بالمنسق، لكن ما علمته بأن هناك أكثر من ألف فلسطيني شاهد صفحة "المنسق" ومر عليها.
"المُنسق" مصطلح يبدو ظاهره جيد وملمسه ناعم. وللذين لا يعرفون من هو "المُنسق" وما المقصود به، فإن "المُنسق" يقود وحدة تسمى "وحدة تنسيق اعمال الحكومة في المناطق" ودلالة ما سلف تُعطي انطباعا بأن الأمر يدور عن حكومة طبيعية تدير شؤون افرادها العاديين، بينما الحقيقة أن التسمية تعني تنسيق اعمال حكومة الاحتلال في المناطق التي يحتلها كيان الاحتلال - الحاكم العسكري الفعلي- وهي اخطر وحدة اذ تتحكم في كافة تفاصيل حياة وحركة ومعيشة المواطنين الواقعين تحت الاحتلال، وتتبع "وحدة المُنسق" لوزير حرب الاحتلال مباشرة؛ ويترأسها ميجر جنرال يكون عضوا في هيئة الأركان التابعة لجيش الاحتلال، ويتركز عمل الوحدة في إدارة الشؤون الحياتية والإنسانية والاقتصادية والبنى التحتية للمناطق المحتلة في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة. بالإضافة الى التنسيق مع السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية فيما يُعرف ويتداول في الاوساط الفلسطينية بلعنة التنسيق الأمني.
رئيس "وحدة التنسيق" حاليا هو الجنرال الدرزي غسان عليان وهو مواليد 21 مارس/ آذار 1972، عُيّن قائد للواء جولاني في سابقة تاريخية لتعيين عربي في هذا المنصب؛ خلفا للعقيد ينيف عشور؛ في العام 2013 حتى 20يوليو/ تموز 2014؛ عندما أُصيب في وجهه على يد المقاومة الفلسطينية أثناء اجتياح منطقة الشجاعية شرق غزة في حرب العام 2014، كان قد تسلم قبل ذلك قيادة كتيبة الاستطلاع في الهجوم الإسرائيلي على غزة عام 2008؛ وتدرج في مناصب عديدة في جيش الاحتلال منها قيادة لواء كفير، وقائد فرقة 36 في هضبة الجولان. وفي العام 2002 تسلم قيادة عمليات جيش الاحتلال في شمال الضفة الغربية المحتلة، وقاد عمليات جيش الاحتلال في معركة جنين، وتولى مهمة ملاحقة مجموعات المقاومة في شمال الضفة الغربية، شارك في الحرب على لبنان 1982 – 2000؛ وحرب العام 2006؛ والحرب على غزة عام 2012، وأخيرا تسلم منصب مُنسق أعمال حكومة الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة في السادس من أبريل/ نيسان 2021.
منذ أن تولى الجنرال غسان عليان منصب "المُنسق" قبل عام ونصف تقريبا، استدار استدارة خطيرة في عالم الاستخبارات فأقام عقّب توليه المنصب ما يُشبه الدولة مقوماتها المعلومات الاستخباراتية المجانية المتدفقة دون رقيب - لُغم أمني بغطاء خدماتي - وكانت نواتها الأولى تصميم صفحة على موقع الفيس بوك باسم "المُنسق" ناطقة باللغة العربية؛ وصل عدد متابعيها لحوالي 920 ألف متابع، اقل منشور فيها يحظى بألف اعجاب تقريبا؛ وبعض المنشورات يتجاوز الاعجاب به الستة ألاف اعجاب خلال ساعات؛ المفارقة عند متابعة التعليقات تجد حالة تقاطع وربما تماهي بين "المُنسق" والمُعلقين؛ مثلا في أيام الأعياد اليهودية نشر على صفحته يقول "بمناسبة #رأس_السنة اليهودية والتي تبدأ اليوم، نتمنى شاناه توفا (#سنة_طيبة) وكل عام وأنتم بخير! ومن تقاليد العيد تناول شرائح التفاحة المغموسة بالعسل، رمزا لأمل أن تكون #السنة_الجديدة حلوة".
عند متابعة التعليقات وجدنا مُعظمها تتمنى لغسان عيد سعيد وسنة سعيدة وكل عام وانت بخير؛ وبإجراء بحث سريع لعينة التعليقات كان بعضها ودون مبالغة أكثر من الثُلث تقريبا لمُعلقين من قطاع غزة ...! ولرجال وسيدات. لست بصدد إجراء تحليل مضمون معلوماتي لمحتوى التعليقات ومصدر كاتبيها وجغرافية التعليقات ونوعيتها وأصدقاء المُعلق وصور صفحاتهم...إلخ من معلومات؛ قطعا فهذه يتتبعها المنسق وجيش من المُتخصصين معه؛ الذين يدونون ملاحظاتهم وتقديراتهم وينهلون من هذا الكنز الأمني المجاني؛ الذي يستطيع "المُنسق" ومساعديه من خلال التعليقات والمشاركات والاعجابات والمشاعر والتفاعلات؛ بناء تقدير موقف لرأي الجمهور واتجاهات الشارع الفلسطيني وميوله!، فالجنرال مُهتم بكل التفاصيل والخلفيات ويضع اعجابه على كافة التعليقات ويرد تحت الهواء على كل الرسائل الخاصة والتساؤلات لا سيما تصاريح العمل...! هو هنا يقوم بمهام ويحقق اهداف لا تقل عما كانت تفعله وحدة "سيرت متكال" بغزة عام 2018 عندما وقعت في حد السيف. ولكن بمخاطرة صفر.
يبدو أن ما تُتيّحه صفحة "المُنسق" في الفضاء الأزرق لم يعُد كافيا، فالجنرال بحاجة لمعلومات تقنية يتحكم هو في نوعيتها ومصدرها ودقتها، فاستدار مؤخرا استدارة استخباراتية وقفز قفزة أمنية نوعية تقنية، فذهب لتصميم تطبيق متاح للهواتف المحمولة سماه "المُنسق"، تجاوز تحمليه أكثر من خمسمائة وخمسين ألف مرة، وتقييمه بلغ أربع درجات ونصف من خمسة، وعند تحميل التطبيق وانشاء حساب خاص عليه يُرسل لرقم الهاتف كودا لتأكيد تسجيل الحساب. هنا يكمن الفخ...!
تقنيا فإنه بمجرد تحميل التطبيق على الهاتف والموافقة على شروط الاستخدام يُصبح الهاتف بكافة مكوناته وامكانياته ومحتوياته تحت تصرف "المُنسق". وذلك أن للتطبيقات التي نحملها شروطًا مقابل الاستخدام المجاني لها، من قبيل السماح لها بالولوج لكاميرا الهاتف أو الصور المخزنة والأرقام المسجلة والميكرفون، والمواقع الجغرافية التي تزورها وموعد مغادرتها.. إلخ.
يُتيح مخزون معلوماتي كامل عنك وعن هاتفك ومحادثاتك التي يقوم بتسجيلها؛ وبالتالي لا يصبح فقط هاتفك ومحتوياته كتاب مفتوح أمام "المُنسق" بل أنت أيضا، ومن خلال ذلك يفهم شخصيتك ومحيطك وتحركاتك يُحلل البيانات فيتمكن من التنبؤ بما يمكنك القيام به "اللوغاريتمات"...! لا سيما وأن الاحتلال قد بلغ ما بلغ من تكنولوجيا المعلومات وبرامج التجسس وما "بيغاسوس" الا نموذج مصغر اتاحه الاحتلال لأصدقائه العرب بعدما استنفذه...!
إن القتال لتحرير الأرض وإقامة الدولة الفلسطينية على كامل الحدود التاريخية لفلسطين مطلوب؛ ولكن دون اسقاط معركة الوعي الأمني من الأجندة حتى إزالة سيف "المنسق" الاستخباراتية التي أقامها في التطبيق.