لا يبدو أنَّ عِنب الخليل سيقطر شهداً وعسلاً على المستوطنين الصهاينة، ولا يُتَوقع أن تجود عيون مائها عليهم بما يُذهب ظمأهم ويروي عروقهم، فالمحتل في هذه المدينة الطيّب أهلها غير مرحبٍ به، ولن يجد فيها سوى ما كسبت يداه.
ويداه طوال 55 عاماً من احتلاله لها لم تقدما سوى كل قبيح، ونفسه لم تضمر إلا كل شر، وجرائمه التي لم تتوقف تشهد عليها دماء المصلين التي سالت فجر الجمعة الدامي في 25 شباط/فبراير 1994 في المسجد الإبراهيمي الشريف.
ربما اعتقد العدو في مرحلة ما أنَّ غفوة أسود الخليل ستستمر إلى ما لانهاية، ويبدو أنه راهن كثيراً على انشغال أهلها البسطاء والكرماء بما شجر بينهم من إشكاليات ونزاعات كان يغذّيها بالسلاح تارة، وبالتحريض وبث الإشاعات تارة أخرى، إلا أنَّ زئير البطل محمد الجعبري الذي قضّ مضجع مستوطنيه في "كريات أربع" قطع عليه تلك الأوهام، وذكّره بتلك الأمجاد التليدة من تاريخ جهاد هذه المدينة الجميلة والعزيزة ومقاومتها.
ولا نبالغ إذا قلنا إنَّ الاحتلال بذل كل جهد ممكن لتحييد مدينة الخليل وفصلها عن باقي محافظات الضفة المحتلة، وحاول بكل قوة أن يُبعدها من ساحة المواجهة المشتعلة في عموم المدن الفلسطينية، ولا سيما الشمالية منها.
وقد كان يعتقد أنه نجح في ذلك، ولو بشكل جزئي، معتمداً على غياب ملحوظ لنشاط المقاومة فيها. هذا الاعتقاد انتقل بطريقة أو بأخرى إلى كثير من أبناء الشعب الفلسطيني الذين افتقدوا الخليل وأبطالها في ساحة كانوا دائماً من السبّاقين إليها.
وما إن زغرد الرصاص في مستوطنة "كريات أربع"، حتى عادت الروح إلى فلسطين كل فلسطين، ودبّ الرعب في صفوف المستوطنين، وعادت ذكريات عمليات "زقاق الموت وعتنائيل" من جديد لتنشر الأمل، وتزف البشريات، وتكسر صمت ليل بهيم، وتعلن بزوغ فجر تليد.
ولكن قبل أن نسترسل أكثر في الإضاءة على هذا الفعل البطولي، لنُلقِ نظرة سريعة على محافظة الخليل، لعلّنا نعرف سر المخطط الصهيوني الرامي إلى فصلها عن باقي أخواتها من المحافظات الأخرى، سواء على المستوى الجغرافي أو المعنوي، وسبب الخشية الإسرائيلية من إمكانية فقدان السيطرة عليها وتدحرج الأمور فيها إلى بوادر ثورة مسلحة باتت معالمها واضحة في أكثر من مكان، وعلى أكثر من صعيد.
الخليل هي أكبر محافظات الضفة الغربية المحتلة من حيث المساحة وعدد السكان، وهي تشكّل ما نسبته 16% من أراضي الضفة، إذ تبلغ مساحتها نحو 990 كلم2، مقسمة إلى نحو 100 قرية ومدينة ومخيم، ويسكنها أكثر من 800 ألف مواطن فلسطيني، وتقع جنوب غربي مدينة القدس المحتلة بنحو 35 كلم.
تتمتع الخليل بأهمية كبرى على أكثر من صعيد؛ فعلى المستوى الديني، تحظى المدينة بمكانة رفيعة لدى المسلمين والمسيحيين، إذ يوجد في بلدتها القديمة التي تُعد من أقدم مدن العالم المسجد الإبراهيمي الشريف، وشجرة سيدنا إبراهيم (ع)، وكذلك كهف ومقابر البطاركة، والعديد من المراكز الدينية والتاريخية التي يعود تاريخها إلى العهدين المملوكي والعثماني.
وقد أعلنت اليونيسكو في تموز/يوليو 2017 البلدة القديمة "منطقة محمية" لحفظها من التمدد الاستيطاني اليهودي. هذا القرار أثار غضباً إسرائيلياً كبيراً في ذلك الوقت، إضافةً إلى اعتماد المجلس التنفيذي لليونيسكو قراراً باعتبار الحرم الإبراهيمي جزءاً من الأراضي الفلسطينية المحتلة، رافضاً المحاولات الصهيونية لضمه إلى قائمة التراث اليهودي.
أما على صعيد الجغرافيا، فهي تقع في وسط فلسطين التاريخية، ما يمنحها أهمية استثنائية بسبب تواصلها الجغرافي مع باقي مدن الضفة من الشمال، والنقب وبئر السبع من الجنوب، وتمر منها كذلك الطريق الواصلة بين مصر والشام مروراً بسيناء، ما جعلها عقدة مواصلات مهمة لطرق التجارة بين قارتي آسيا وأفريقيا.
وإضافةً إلى البعدين الديني والجغرافي، تحظى الخليل بأهمية اقتصادية بالغة، إذ تُعتبر من كبريات المحافظات الفلسطينية على مستوى الصناعات المختلفة، وتقدّر بعض الدراسات مساهمتها في الاقتصاد الوطني الفلسطيني بنسبة 33%، ويوجد فيها حوالى 18 ألف منشأة صناعية، وهي أعلى نسبة على مستوى الوطن.
أدرك الاحتلال الإسرائيلي الأهمية الإستراتيجية لمحافظة الخليل مبكراً، فحاول فرض وصايته عليها بالقوة، مستخدماً في ذلك أحزمة من المستوطنات حولها وداخل أحيائها العربية. تلك المستوطنات والبؤر الاستيطانية التي تجاوز عددها الخمسين، والتي يسكنها أكثر من 30 ألف مستوطن، نهشت الأرض، واحتلت الجغرافيا، وباتت تشكّل عبئاً على كل أشكال الحياة في تلك المدينة الجميلة.
وقد قام الاحتلال الإسرائيلي أيضاً بشقّ طرق التفافية قسّمت المحافظة إلى 5 كانتونات معزولة عن بعضها بعضاً، إضافة إلى توغل جدار الفصل في أراضي المحافظة، ملتهماً عشرات الدونمات من أراضيها.
ولا ننسى هنا الإشارة أيضاً إلى أن الاحتلال رفض إدراج الخليل ضمن المناطق "أ" التي تخضع إدارياً وأمنياً للسلطة الفلسطينية، وتم تصميم وضع خاص عُرف باتفاق "واي ريفر" بين السلطة والعدو عام 1997، قضى بتقسيم المدينة إلى منطقتين؛ الأولى أُطلق عليها "H1"، وهي تخضع للسلطة الفلسطينية، والأخرى أطلق عليها "H2"، وهي تخضع للسيطرة الإسرائيلية.
وقد تلا ذلك فرض التقسيم الزماني والمكاني في المسجد الإبراهيمي، إذ بات الاحتلال يسيطر على 60% من مساحة المسجد، ولا يدخله الفلسطينيون إلا بتنسيق معه، وبعد خضوعهم لإجراءات أمنية مشددة، وصار يمنع في كثير من الأحيان رفع الأذان فيه بحجة عدم ازعاج المستوطنين.
وعلى الرغم من تلك المحاولات الحثيثة والخبيثة للنيل من شموخ الخليل وأهلها، فإن جذوة القتال والكفاح لم تنطفئ. ربما خبت قليلاً في لحظات ما بفعل عوامل عديدة ومؤامرات كثيرة، إلا أن شعلتها عادت للتوقّد من جديد، مسقطةً في طريقها كل المؤامرات.
عادت كأجمل ما تكون العودة، بزند بطل من أبناء هذه الأرض، معجون من ترابها، ومفتون بقدسيتها. امتشق سلاح الحق في وجه الباطل، رغم فارق الإمكانيات، وصرخ بأعلى صوته أنْ لا مقام لكم هنا، فهذه الأرض لا تتسع لشعبين، ولا تتساوى الظاهرية مع "كريات أربع"، ولا تشبه بيت أمّر "عتنائيل"، ولا يمكن لشجر الغرقد أن يجاور كروم العنب واللوز.
خرج محمد الجعبري متوشحاً بعباءته الشاميّة الطاهرة، وممتشقاً بندقيته التي تعرف وجهتها جيداً، ليقول للعدو والصديق إنَّ الخليل لن تخون عهد الوطن، ولن تكون سكيناً في خاصرته، بل هي نار ولظى تلقي حممها في وجه المحتل، وتسوِّئ وجه مستوطنيه كلّ وقت وكلّ حين.
صرخ محمد بأعلى صوته: في الخليل وطن ومواطنون، فليرحل المستوطنون، وأعلن بطلقات رشاشه أنه إذا سطع اليقين، فإن "كريات أربع" لن تكون! وكتب بدمه النازف أنَّ الصاع بالصاع، والنار بالنار، وأن مصير الدمار الدمار.
سلام على الخليل وأبطالها. سلام على قراها ومدنها ومخيماتها. سلام على جبالها ووديانها. سلام على كل ذرة تراب عُجنت بدم شهدائها. سلام على فلسطين وهي تنتظر فجر الانتصار القادم لا محالة.