لم يخشَ الموت يوماً، إنما كان حذراً باستمرار.
ما كان يخشى القتال يوماً، إنّما كان حريصاً على الإعداد والاستعداد.
ما كان فظّاً في حياته، إنما كان جادّاً وحريصاً على الاستقامة.
ما كان وحيداً في أي لحظة، فقد كان الشعب عائلته.
وبعد، كان سريع البديهة، وقّاداً ولاذعاً عندما يستدعي الموقف لذاعة.
كان حنوناً على الأطفال وله من الأطفال آلاف، هم أبناء وبنات الشهداء.
في أيام الأعياد كنت أرافقه لتناول الغداء مع أولاد وبنات الشهداء.
ما كان يتذوّق لقمة إلا ليشجع طفلاً على الأكل وتناول الطعام، وما كان يتناول الحلوى إلا ليشجّع الأطفال على تناولها بفرح وابتسام، كان يربّي أجيالاً وكلّه أمل بأن يعيدهم معه إلى دولتهم المستقلّة، كان حلمه الذي تحوّل إلى هدف شدّه وقولب كلّ خططه لتحقيقه.
أراد لشعبه دولة مستقلّة، واستخدم العدو حلمه للضغط عليه وجرّه إلى كمائنهم.
ياسر عرفات المقاتل الحذر كان يقرأ ما يجول في عقل العدو.
ليلة اغتيال القائد أبو جهاد
كنا نرافق «الختيار»، في جولة عربيّة في محاولة لمنع تفجّر الأوضاع في المنطقة. وصلنا إلى قطر التي كانت محطّة الوفد قبل التوجّه إلى السعودية، جلسنا في غرفة الاستقبال في جناح ياسر عرفات (عرفات وصلاح خلف وأنا وآخرون)، ثم خلت الغرفة إلا من القائد أبو عمار والقائد أبو إياد وأنا، وكان قد طلب من مرافقيه الاتّصال بالقائد أبو جهاد «خليل الوزير»، كان قلقاً على أبو جهاد وتحدّث معه هاتفياً وهو يمسك بتقرير «سرّي جداً»، يحذّر فيه كاتبه من عملية اغتيال القائد أبو جهاد، وقد أحاط الرئيس أبو عمار اسم أبو جهاد بدائرة بقلم أحمر، وسمعناه يصرخ بأبو جهاد بغضب شديد، ويعاتبه لعدم مغادرته تونس (طلبت منك مغادرة تونس، وكان عليك أن تغادر أمس لماذا لم تغادر يا أبو جهاد)، أجابه أبو جهاد بهدوء أن «الشباب أرادوا يوماً لقضائه مع عائلاتهم، فقد مضت فترة طويلة لم يشاهدوا خلالها أطفالهم»، وتابع أبو عمار بغضب شديد تأنيب أبو جهاد لبقائه في تونس، وأبلغه أبو جهاد بأنه سيغادر فجراً.
لم أرَ ياسر عرفات من قبل بمثل هذه الحالة من التوتر، رافقتُه إلى الطابق العلوي حيث غرفة نومه محاولاً تهدئته، فنظر إليّ بحنان الأب وقال: «أنا خايف عليه، يخططون لاغتياله وصلتني معلومات مؤكدة»، عدتُ إلى غرفة الاستقبال وألقيت تحية وقلت لأبو إياد: «سوف آخذ قسطاً من الراحة سأكون في غرفتي»، وتوجّهت إلى غرفتي وألقيت بجسمي المنهك على السرير لأغطّ فوراً في نوم عميق من الإرهاق، استيقظت على صوت طرق على باب غرفتي... طرق متتابع وملح فسألت: من هناك؟ فأجاب أحد المرافقين قائلاً: الأخ أبو إياد يريدك فوراً. فتحتُ الباب وتوجهت معه فوراً، كنت قد نمت بثيابي وحذائي، ولم أكن بحاجة لوقت لأهيّئ نفسي. دخلت غرفة الاستقبال لأجد أبو إياد مطرقاً، وقد بلل الدمع عينيه وقفت مشدوهاً. قال لي بصوت يكاد لا يُسمع: «استشهد أبو جهاد، وأنا لا أستطيع أن أبلغ أبو عمار، أنت الوحيد القادر على إيقاظه وإبلاغه بالكارثة». تردّدتُ، أنا لا أحبّ إبلاغ الأخبار الكارثية، لكن الظروف صعبة، ولا بدّ من إيقاظ الرئيس وإبلاغه.
صعدت إلى الطابق العلوي ببطء، ثم طرقت الباب، فلم يردّ في بادئ الأمر، فكرّرت الطرق وإذا بصوته يعلو سائلاً: «مين بخبط؟»، كان إيقاظ ياسر عرفات من نومه مكروهاً لديه، كان يحبّ الاستغراق في النوم ولو لساعة واحدة، قلت: هذا أنا. سأل: بسام؟ قلت: أجل، وفتح الباب ببطء ونظر إلى وجهي قائلاً: أبو جهاد أليس كذلك؟ هززتُ رأسي. قال: اهبط إلى الصالة سوف ألحق بك.
دقائق مرّت قبل أن يظهر بيننا، وقد جفّت دموعه بعد أن تركت آثارها، وتصرّف كقائد معركة وراح يوجّه التعليمات: بسام ابدأ بكتابة بيان سياسيّ وميدانيّ، وأمر بإجراء اتّصال مع مرافق أبو جهاد وسأله أبو عمار: «الشنطة فين؟»، أجابه معي سيدي الرئيس فردّ عليه «روحك والحقيبة، إياك، يجب أن تسلمها لي أنا فقط».
(كانت حقيبة أبو جهاد الخاصة تحتوي على لوائح الأعضاء والمقاتلين داخل الأرض المحتلة)
ثم تحدّث مع أم جهاد، وقرّر أن نتابع جولتنا كما كانت مقررة.
كانت تلك أكبر الضربات التي وجهها العدو إلى قيادة الثورة، وياسر عرفات. لقد اغتالوا أبو جهاد الذراع الضارب للعدو على أرض فلسطين.
قال أبو عمار ونحن في طريق العودة: «إسرائيل تشنّ حرباً شاملة، وستحاول تصفية القيادة فرداً فرداً بعد هزيمتهم وفشلهم في بيروت. اخترقوا تونس ولديهم حلفاء في المتوسط وعلينا الحذر»، ونظر إلى أبو إياد محدّقاً: الحذر... الحذر.
منذ أن عدنا من تلك الرحلة، كان أبو عمار يرسل مرافقاً من مرافقيه في آخر الليل، ليصحبني إلى مقر من مقراته السرية لأقضي الليل حماية لي.
حاولوا اغتيال ياسر عرفات عشرات المرات (منذ 1967)، وحاولت أن أدوّن هذا في كتابي الذي سيصدر قريباً في بيروت عن إرهاب الصهيونية فكرة وحركة ودولة، واستبعد الجميع بعد عودة أبو عمار إثر اتفاقيات أوسلو وواشنطن أن يحاول الصهاينة اغتياله، وبقي هذا الانطباع قائماً حتى عندما أبلغته بالمعلومات حول خططهم لاغتياله بالسم، لكنهم اغتالوه وهاجموا مقرّه بالطائرات والدبابات والمدفعية، وحاصروه في أمتار مربعة قليلة. إنهم إرهابيون... إنها دولة تمارس الإرهاب الدموي ضد شعب وقادته، والمهم أنهم لا يفهمون ولا يعرفون أن شعبنا سوف يقاوم، وسنصل إلى نقطة التلاحم مع بعدنا القومي، وسننتصر، عندها نضع حدّاً حاسماً للغزوة الصهيونية.
كاتب وسياسي فلسطيني