حتى يتدارك علماء الإسلام سقوط القدس بيد الصهاينة، فقد اجتمعوا فيها عام 1931، بقيادة العالم السنّي المقدسي؛ الحاج أمين الحسيني، وقد أجمعوا على إمامة المرجع الشيعي كاشف الغطاء، الذي وقف بهم خطيباً في المسجد الأقصى، في تعبير رمزي معنوي عن وحدة أجنحة الأمة كلها، في سبيل حماية القدس من الخطر الصهيوني القادم برعاية إنكليزية صريحة.
لم يسهم هذا الاجتماع العلمائي، في خلق جبهة عريضة تحمي فلسطين أو القدس، فجرى ابتلاعها بالتدرّج عبر عقود من تفكك الأمة على كل الصعد، ولكن صيحة سابقة فعلت ذلك في يوم حافل من تاريخ الأمة، هناك في معركة "ساحة الدم" عام 1119، بعد أن وطّد الصليبيون احتلالهم للقدس، وأخذت زحوفهم تمتد نحو حلب والموصل، فبرز القاضي الشيعي ابن الخشّاب، ليقود مقاومة شعبية عقدت تحالفاً مع القائد التركماني السنّي ابن أرتق، حتى نجحت عبر وحدتها في إبادة الحملة الصليبية برمتها.
وفي العصر الراهن أطلق الإمام الخميني منذ انتصار الثورة الإيرانية، فتواه الشرعية بوجوب نصرة القدس، وتأسس فيلق القدس بقيادة الفريق قاسم سليماني، الذي نذر نفسه لمواجهة المشروع الأميركي الإسرائيلي التكفيري، وقضى شهيداً في هذا السبيل، وهو يقدم كل أشكال الدعم المادي والسياسي للمقاومة الفلسطينية "السنّية"، عبر محور تمتد أضلاعه من طهران حتى غزة وجنين مروراً بصنعاء وبيروت ودمشق والحشد الشعبي في بغداد، بتجاوز جوهري لكل إطار مذهبي.
ما بين لقاء العلماء في القدس برعاية الحسيني وكاشف الغطاء عام 1931، وبين معركة غزة في "وحدة الساحات" بقيادة الجهاد الإسلامي، ودعم إيراني، عام 2022، قرن من الزمان ظلت فيه القدس مفرق طرق وامتحان السؤال الأخير، فهل يمكن لسؤال السجال السنّي الشيعي الممتد منذ السقيفة وصفّين، أن يتحول من عامل فرقة وضعف، إلى ميدان قوة وانتصار؟
بدأ الخلاف بين السنة والشيعة تاريخياً؛ كخلاف سياسي على إمامة الأمة بعد رحيل رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام، ثم تفاعل على صفيح التباعدات التاريخية ليتمدد في جميع فروع الفقه والعقيدة، من دون أصولها الجامعة، حتى استقر في عصرنا الراهن ضمن ضوابط طائفية متوازنة العدد نسبياً في العراق ولبنان واليمن، وفي أقطار أخرى بصيغة يحكمها عامل واقعيّ ضمن حالة الأكثرية والأقلية، ففي الوقت الذي يغلب على إيران وأذربيجان والبحرين المذهب الشيعي، مع وجود أقليات سنية، فإنه يغلب على باكستان وأفغانستان والسعودية والكويت وسوريا وتركيا، المذهب السني، مع أقليات شيعية، بما يوجب تجاوز الضابط الواقعي لما هو إسلامي كلي، بالمعنى السياسي الفقهي، أو الفقهي المجرد عن السياسي، فهل ذلك قابل للتحقق؟
لأن "المؤمنون إخوة" بالأساس، ولأننا أمة واحدة في الأصول والتاريخ والجغرافيا، ولأن التحديات واحدة؛ فإن كل دعوة إلى التقريب بين أطياف الأمة المذهبية أو العرقية أو القُطرية، قابلة للنجاح المبدئي، إذا توافرت فيها مقومات جادة وآليات عملية، وكل بات يعي اليوم، أن عوامل التفرقة مبعثها الأساس ارتهان قيادي ذاتي، يحول دون تجاوز الضغط الخارجي، وهو ضغط يقوم في جانب منه على تعزيز عوامل التفرقة وإدامتها.
دعوة الأزهر إلى الحوار والرد الإيراني
ونظراً إلى الدعوة التي أطلقها شيخ الأزهر أحمد الطيب، خلال زيارته البحرين أخيراً، إلى حوار إسلامي-إسلاميّ، التي قال فيها "أتوجه إلى إخوتنا من المسلمين الشّيعة، ومعي كبار علماء الأزهر ومجلس حكماء المسلمين، لعقد مثل هذا الاجتماع بقلوب مفتوحة وأيدٍ ممدودة للجلوس معاً على مائدة واحدة، لتجاوز صفحة الماضي وتعزيز الشأن الإسلامي ووحدة المواقف الإسلامية، ووقف خطابات الكراهية المتبادلة، وأساليب الاستفزاز والتكفير، وضرورة تجاوز الصراعات التاريخية والمعاصرة بكلّ إشكالاتها ورواسبها السيئة...".
فهي وفق ما جاء فيها؛ دعوة جادّة من أعلى هرم سنّي فقهي/عقدي، وإن بقي السؤال حول طبيعة مداها، هل هو رمزي معنوي، أم مشروع تغييريّ؟
سارع علماء إيران إلى الرد على دعوة الأزهر، حيث صدر أول رد فعل شيعيّ عبر الأمين العام للمجمع الدولي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، الشيخ حميد شهرياري، مرحباً بالنداء الذي أطلقه شيخ الأزهر، داعياً إيّاه إلى زيارة إيران، ووضع الأسس الأولية للحوار، مؤكداً استعداده للذهاب عبر وفدٍ من مجمع التقريب، إلى القاهرة للقاء شيخ الأزهر، لمناقشة موضوع الحوار، ورأى أن "دعوة شيخ الأزهر ستضيف أموراً مهمة، لأننا من خلالها نقاوم الأطروحات والمشروعات للعدو، الذي يسعى لزرع الفتنة بين المسلمين" مشيراً أنه لدى المجمع أكثر من 100 عالِم من أهل السنة في إيران، مؤكداً أن "بعض المدارس الدينية تتبنى الأفكار التكفيرية، وإذا جلسنا مع علماء هذه المدارس فقد نصل إلى نقاط مشتركة" ولكنه رأى أن "التوصل إلى اتفاقٍ كامل أمرٌ صعب جداً في العالم الإسلامي، لأنّ بعض الأمراء ما زال يصبّ الزيت على نار الفتنة".
وعند النظر إلى واقع الانقسام المذهبي، فإن هناك 3 مسارات تحكم كل دعوة إلى التقريب أو الحوار؛ مسار سياسي، وآخر عقائدي/فقهي، ومسار يجمع بين كليهما. وسبق للرئيس جمال عبد الناصر أن التقى في القاهرة عام 1956 عالم الدين الشيعي تقي القمي، ليطمئنه الأخير إلى أن مدرسة التقريب مع علماء الأزهر في القاهرة، التي نشأت منذ عام 1947، مدرسة فكرية ليس لها أفق سياسي، مما ساهم في استمرار نشاطها.
المسار الفقهي/العقدي المجرد من أدنى محتوى سياسي، يبدو معقولاً اليوم في ظل ما حذّر منه الشيخ شهرياري من صب الأمراء للزيت على نار الفتنة، وهي فتنة أيقظها الغرب، ضمن الاصطفافات الراهنة، وقد نجحت المؤامرة الأميركية الإسرائيلية بمساعدة سعودية في دمغها بالصبغة المذهبية، مع أن محور المقاومة مجرد عن المذهبية في حقيقته، في ظل انحداره من أوساط مذهبية متعددة، فالمقاومة الفلسطينية من وسط سنيّ صرف، واليمن من وسط زيديّ/سنيّ، وقيادة سوريا وسطها علوي/سنيّ، فيما قيادة إيران وحزب الله والحشد؛ جعفريّة، يؤمنون جميعاً بالإسلام كإطار جامع، وبأولوية مواجهة التحدي الأميركي/الإسرائيلي.
هل الحوار الإسلامي الإسلامي ممكن؟
وهذا المسار المجرد عن الأثر السياسي، أقرب إلى التحقق من جهة، وأعمق في الأثر من جهة أخرى، فشيخ الأزهر لا يحمل منصباً سياسياً، وإن كانت حركته محكوم عليها في النهاية بعامل السلطة السياسية الحاكمة في مصر، وربما في السعودية أيضاً، على الرغم من البون الشاسع بين مدرسة الأزهر، والمدرسة الوهابية في السعودية، فالأزهر على الرغم من الأثر السلفي المتنامي، تبقى مدرسته الفقهية متأثرة بتراث الشيخ شلتوت وأبي زهرة والمراغي، وهو تراث يستوعب الآخر الفقهي، لذا سمحوا بتدريس الفقه الشيعي، إلا أن التحالف السياسي النسبي بين نظاميّ مصر والسعودية يلقي بظلاله على المراكز الدينية، فهل يمكن أن تتحر هذه المراكز من هذا الأثر؟
ليس منتظراً من المدرسة الوهابية أو السلفية أن تستوعب أي حوار مع الآخر الفقهي، فهي في نفسها قامت على الإقصاء والتكفير، ليس تجاه الشيعة وحسب، بل كفّرت الصوفية والمعتزلة والإباضية والأشاعرة، ونالت من المذاهب السنية وهمّشتها، حتى أمكن "داعش" على وحشيته وتكفيره عامة الأمة، أن يجد له حواضن خصبة في الأوساط الوهابية السلفية، على امتداد الجغرافية الإسلامية.
ومدرسة الأزهر؛ هي الأكثر تأهيلاً لرعاية التقريب، بخاصة أن النظام الحاكم في مصر ظل طوال الوقت يترك للأزهر هامش مناورة واسعاً، على الرغم من عينه الدائمة عليه، مع طبيعته التاريخية المتحسسة من التماهي مع المغامرات السعودية، وإن نسبياً، بما يساعد على أفق أرحب لإنجاح حوار كهذا.
وعند الوقوف على حال المراكز الشيعية في النجف وقم، فهي متحررة بالأساس من الأثر السياسي، ولعل ذلك ما ساعد حوزة قم في قيادة الثورة على الشاه عام 1979، واستعصاء النجف عن أثر التحولات السياسية التي ألمّت بالعراق، سواء مع نظام صدام أو الاحتلال الأميركي أو الحكم الحالي المتأثر بآثار الاحتلال.
يتجاوز التحدي الأكبر للمراكز الشيعية في قم والنجف؛ الأثر السياسي المتحررة منه، لما هو في مدى قدرتها أو استعدادها لتجاوز قضايا تاريخية لها تأصيل سياسي، كواقعة سقيفة بني ساعدة، فهي في الوجدان السني الجمعي، مثّلت نقلة اضطرارية من مرحلة النبوة إلى مرحلة الخلافة الراشدة، وهي خلافة سياسية متداخلة مع نشأة الدين نفسه، بخلاف مِفْصَل واقعة صفّين وخروج معاوية على الإمام عليّ، فجوهر الوجدان السنيّ لم يزل مع عليّ وحكمه، حتى مع استقرار الأمر لمعاوية، وتطويع التسنن حركته الفقهية مع هذا المستجد الواقعي، وتأثره النسبي به.
إن مقومات إطلاق حوار سني شيعي، متوافرة اليوم، وقد أثخن الجسد الإسلامي بالجراح، وباتت المراكز السنية الفقهية تدرك حقيقة الثقل الشيعي المتنامي، خصوصاً في ظل فضاء معرفي مفتوح على مصراعيه، مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي، مع إدراك شيعي بضرورة الخروج من حدود الطائفة لما هو الشعب والأمة، فالظهور الحقيقي للتشيع الذي جسّده الخميني في ثورته الإسلامية تجاوز قضية ظهور الإمام المهدي، على أهميتها التقليدية في الوجدان الشيعي، لما هو النهوض لمواجهة التحديات العالمية الكبرى، وتمام هذا محال من دون التنفس عبر الرئة السنية الواسعة.
ويبقى نجاح التقريب السني الشيعي، في حال انطلق وتجاوز كل المطبات، سواء بزيارة شيخ الأزهر لإيران أو بزيارة قيادة مجمع التقريب الإيرانية للقاهرة، مشروطاً بمشاركة علمائية لا تنحصر في مصر وإيران، بل تشمل علماء العراق وتركيا وباكستان والجزائر والهند، ومختلف الهيئات العلمائية الفاعلة في العالم الإسلامي.
البناء على المشتركات
وكل حوار محكوم بآليات تفتح آفاقاً للبحث، وليس مجرد إطلاق بيانات ختامية رمزية، فالحوار يتطلب تحديد قواسم مشتركة في الفقه والحديث والعقيدة وحتى التاريخ، فعليّ والحسن والحسين، أئمة لا يختلف في مبدأ مكانتهم الدينية اثنان من المسلمين، والخلافة الراشدة في مجملها أرست دعائم الإسلام، بما يسمح لعامة المسلمين برؤية هذا الإجمال، وإن بعيداً من قضية الشرعية الدينية لما هي الشرعية الواقعية وثمارها الإيجابية.
وفي التراث السني الشيعي مساحة مشتركة متفق عليها بنسبة تتجاوز 80%، وهي تغطي مجمل الشأن الفقهي الحديثي العقدي التاريخي، ولو اقتصر البحث على علم السيرة النبوية، مثلاً، وفق ما أبدعه الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي، كنموذج علمي، لربما صلح كتأصيل قابل للتفريع في جميع العلوم الإسلامية، فهل تعجز آفاق الحوار عن إطلاق مراكز بحث علمي مجرد لتهذيب هذه المساحة المشتركة، لتصلح مائدة دينية يرى فيها المسلم نفسه، سواء أرغب في مذهبه أم انعتق من أسره؟
في إمكان أيّ مركز بحثيّ مشترك في حواضر الإسلام الرئيسة، مع استثناء السعودية، كما أسلفنا، أن يخلص إلى تحقيق مراجع مشتركة في جميع المجالات الفقهية والعقدية والحديثية والتاريخية، حتى عند تناول القضايا الحساسة بين الطرفين، وهو ما يتطلب جرأة تتجاوز المجاملات اللفظية، لما هو وضع نقاط الضرورة الملحّة على حروف العلوم المجردة.
لو تجاوزنا ضغط الواقع الراهن، وقدّرنا بعض ما يمكن أن ينجزه مجرد مركز علمي وحدوي، على سبيل المثال؛ ففي الفقه لو أخذنا قضية الرِجْلين في الوضوء بين الغسل والمسح، وعرضنا كامل الأدلة الفقهية، لوجدنا الأدلة قوية عند الطرفين فعلاً، بما يفتح المجال للغسل أو المسح من دون حرج شرعيّ، وفي التاريخ لو تناولنا قضية استشهاد الحسين، لربما وجدنا روايات تاريخية مجمعاً عليها بين الطرفين تصلح لتكوين قصة كاملة، وفي التفريع العقدي، لربما يمكن الاتفاق على طبيعة الأدلة التي تصلح للاستشهاد بالشأن العقدي والبناء عليها من دون غيرها، وفي الأحاديث لماذا لا يمكننا وضع مرجع أحاديث يشمل كل الأحاديث المتفق عليها في كتب الطرفين، ولربما وجدنا أن أحاديث هذا المرجع المتفق عليها، تغطي كل المجالات والحاجات العلمية الإسلامية من دون نقص جوهري.
وسواء انطلق طريق الأزهر نحو التقريب، أم عرقلته مكائد السياسة، فإن الواجب يملي على الطرف الذي يملك ناصية أمره، أن يأخذ زمام الأمور بالتحرك الموازي عبر كل الصعد، لخلق أرضية علمية وسياسية في كل ميدان يقع تحت نفوذه، بما يأخذ المذاهب الإسلامية كافة بعيداً من التسنن الأموي والتشيع الصفوي، لما هو الإسلام المحمدي بأولوية التصدي للتحديات الكبرى.