بحزنٍ وأسى وحرقةٍ وألمٍ ودع عشرات الآلاف من سكان مخيم جباليا، المخيم الأكبر للاجئين الفلسطينيين شمالي قطاع غزة، شهداء عائلة "أبو ريا" الواحد والعشرين، الذين سقطوا ضحية الحريق الهائل الذي اندلع في المبنى الذي اجتمعت فيه العائلة للاحتفال بابنها العائد الطبيب المتفوق، وقد التأم شمل العائلة صغاراً وكباراً، زائرين ومقيمين، فرحاً وسعادة، وقد جاؤوا بزينتهم وهداياهم للتهنئة والمباركة، وكأنهم كانوا على موعدٍ مع القدر، فما تخلف منهم إلا القليل ممن كتب الله لهم الحياة، ولكن قدر الله عز وجل كان الغالب، فأدركهم الموت واستبقوا جميعاً إلى خالقهم، فنحسبهم عنده سبحانه وتعالى شهداء يرحمهم، ويدخلهم فسيح جناته، ويجمعهم بمن سبقهم من الأنبياء والصديقين والشهداء.
الحادثة أليمة قاسيةٌ والمصاب جللٌ كبيرٌ، والفاجعة تحرق القلوب وتفتت الأكباد، إذ تكاد تكون عائلة بأكملها قد ذهبت ضحية الحادث، فالشهداء جميعهم من أسرةٍ واحدةٍ، أقاربٌ وأشقاءٌ وآباءٌ وأبناءٌ، ولكن أحداً لا يملك رد القضاء وصد القدر، ولا يعرفٌ أحدٌ أين حتفه ومتى موته، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، وعظم الله أجر شعبنا وأمتنا بهذه المصيبة، ونسأله سبحانه وتعالى أن يكلأ من بعدهم بحفظه ورعايته، وأن يكرم من بقي من ذويهم بالصبر الجميل والسلوان والحسن، وأن يجعل من رحلوا فرطاً لأهلهم في جنان الخلد والفردوس الأعلى، يستقبلونهم في أعلى مقامات الجنة.
خرج عشرات الآلاف من سكان مخيم جباليا ومن مختلف أرجاء القطاع، يتقدمهم وجهاءٌ ومسؤولون، ومقاومون وحكوميون، وعسكريون ومدنيون، ونوابٌ ومخاتيرٌ، وشيبٌ وشبانٌ، ورجالٌ وأطفالٌ، في مشهديةٍ عظيمةٍ تذكر بجنائز عظام الشهداء، وتعيد المجد إلى أيام الانتفاضة المجيدة، وتذكر الشعب والأمة بأيام الله الخالدة، حيث سبق لهذا المخيم العظيم، المشهود له بالبذل والعطاء والتضحية والفداء أن قدم آلاف الشهداء، ورسم بسيرتهم العطرة ودمائهم الزكية أعظم الصور الملحمية وأروع المشاهد في المواجهة والجهاد، وفي المقاومة والصمود، وفي التحدي والقتال، حتى غدا بحق مخيم الثورة ومهد الانتفاضة.
قد لا تمضي الأيام القادمة في مخيم جباليا بسهولةٍ كسابقاتها، كما مضت مريرةً صعبة قاسيةً مؤلمةً على أهل مخيم النصيرات قبل سنواتٍ قليلةٍ، عندما عصف بهم حريقٌ كبيرٌ فّجَّرَ خزانات الوقود ومولدات الكهرباء، وحرق المحال والمعامل والبيوت، وقُتلَ فيه حرقاً عددٌ غير قليلٍ من عامة المواطنين، وأصيب عشراتٌ آخرون بجراحٍ بليغةٍ ربما ما زال بعضهم يعاني منها حتى اليوم.
شوارع مخيم جباليا وحي تل الزعتر قد اتشحت بالسواد، وغادرت بيوتها البسمة، وأغلقت فيه سرادقات الزفاف وصالات الفرح، وأعلنت سلطات غزة حالة الحداد العامة، وأبدى الفلسطينيون عموماً وأهل قطاع غزة المقيمون فيه والبعيدون عنه سفراً وعملاً، ودراسةً وعلاجاً، وإبعاداً وطرداً، حزنهم الشديد وتعاطفهم الكبير مع ذوي الضحايا، ولعلهم كثيرٌ وأنا وأهل بيتي منهم، فنحن من سكان مخيم جباليا، ولدنا فيه وترعرعنا، وعشنا فيه وتعلمنا، ونعرف أهله وسكانه، وبيننا وبينهم علاقات قربى ونسب، وروابط محبةٍ ومصاهرةٍ، وبقية أهلنا وعامة عائلاتنا فيه يعيشون، فأصابنا ما أصاب غيرنا من الهم والحزن، فلم ننم ليلتها ونحن نتصل ونسأل، ونتابع ونسمع، فالمصاب مصابنا، والضحايا هم أهلنا.
مما لا شك فيه أن التحقيقات قد بدأت، وأن السلطات المعنية في قطاع غزة قد باشرت العمل لمعرفة أسباب الحادث، والظروف التي كانت وساعدت على اندلاع الحريق وسرعة انتشاره، وستكون معنيةً جداً بمعرفة مدى استجابة فرق الدفاع المدني وسرعة تلبيتها النداء، ودورها في محاولة استنقاذ المواطنين وإخراجهم من المبنى، ومن المؤكد أنه سيكون هناك تقريرٌ نرجو أن يكون مهنياً صادقاً شفافاً، لا يحابي سلطةً ولا يداري مسؤولاً، يكشف فيه عن الحقيقة، ويبين الأسباب، ويوضح السلبيات التي كشفتها الحادثة، والعيوب التي ظهرت في أجهزة الدفاع المدني ومدى استعدادها وجاهزيتها، وسرعة تلبيتها وجهوزية طواقمها، وملائمة تجهيزاتها ومعداتها.
قد تبقى الجراح على مَرِّ الأيام غائرة وبيوت العزاء مفتوحة، ومآقي العيون بالدموع تسبح، والقلوب من الحزن تتمزق، وعلى الأحبة والخلان تكاد تنفطر، فلا تعود الحياة حلوة كما كانت، وجميلة كما أرادوها بِلَمِ الشمل واجتماع الأهل واستعادة الذكريات، وهي المدينة ومخيماتها التي اعتادت على المحن والابتلاءات، وعلى المصائب والنكبات، وشهدت الحروب والاقتحامات، والعدوان والاغتيالات، ولكنها كانت دائماً تصبر وتصمد، وتتعالى على الجراح وتسمو، ومن كبواتها كانت تنهض، ومن أحزانها تخرج، وعلى جراحها تنتصر.
رحم الله الشهداء، وتغمدهم وبواسع رحمته، وأكرم أهلنا في مخيم جباليا وعموم قطاع غزة الصبر الجميل والسلوان الحسن، وعوضنا وإياهم عمن فقدنا العوض الحسن، وإنا لله وإنَّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.