عندما كُنت صغيراً ذهبت بصحبة عمي لزيارة بيته في الرملة في داخل فلسطين المحتلة، وكان ذلك بعد احتلال قطاع غزة عام 1967، وعمي هو من العرب الذين لم يهاجروا من أسدود عام 1948، وهُجّر من قريته مع أسرته ليسكن الرملة، يومذاك قفز إلى ذهني سؤال: كيف استطاع "بلد" صغير و"جيش" صغير أن يهزم كل الدول العربية في حربي 1948 و1967؟
لم أحصل يومذاك إلا على إجابة واحدة وهي: أن "الجيش" الإسرائيلي "جيش لا يُقهر"، وظل السؤال يلح إلى أن جاء عام 2000 وكان الهروب الكبير من لبنان أمام المقاومة وحزب الله، ثم جاء عام 2006 والهزيمة المرة أمام حزب الله في مارون الراس، واستعمال الجيش المهزوم الرد على المدنيين في قانا كبديل من تحقيق النصر في الميدان. أيقنت بعد ذلك أنه "جيش" ساقط ويقهر، وأجابت المقاومة عن سؤالي بطريقة عملية.
وبلغت الهزيمة وسقوط "الجيش" الإسرائيلي وتأكّل قوة الردع مداها في حرب "سيف القدس" عام 2021 وتوحد الساحات الأربع ضد الاحتلال غزة والضفة وعرب فلسطين المحتلة عام 48 والفلسطينيين والمناصرين لهم خارج فلسطين، ثم جاءت حرب 2022، معركة "وحدة الساحات" فعززت سقوط هذا الجيش وتأكّل قوته على الردع، ما أدى إلى اشتعال الضفة الغربية وظهور كتيبة جنين وعرين الأسود في نابلس وكتيبة طوباس وكتيبة بلاطة وغيرها من الكتائب التي ستجعل هذا الجيش غير قادر على الصمود.
الشعب الفلسطيني الأعزل قاوم من خلال الانتفاضات الشعبية الفلسطينية، انتفاضة الحجارة 1987، ثم انتفاضة الأقصى عام 2000، ولعلها مفارقة أيضاً أنه في الربيع العربي عام 2010 حدث انهيار لمعظم الجيوش العربية وانسحابها من المشهد، وبينما أعدت "إسرائيل" قوتها لمحاربة الجيوش على أساس التفوق في التسليح والتكنولوجيا، تفوقت المقاومة في الاستثمار غير المكلف في مضاعفة القوة، وكانت الحروب الحقيقية التي خاضتها "إسرائيل" على مدى العقود الثلاثة الأخيرة على المقاومة في لبنان وفلسطين، "حزب الله" "والجهاد الإسلامي" و"حماس"، وقوى المقاومة الأخرى، كلها عوامل سقوط وهزيمة للجيش الإسرائيلي.
في كتابه "الحرب والاستراتيجية" يوضح الكاتب الصهيوني يهوشفاط هركابي "أن جوهر الردع هو التهديد من طرف بإلحاق ضرر كبير بخصمه إذا اتخذ خطوة عدائية تجاهه، وسيكون الردع فعالاً إذا اعتقد الخصم أن الشخص الذي يهدده يمتلك القوة والقدرة والتصميم والأدوات على تنفيذ تهديده".
والردع في الحرب اللامتكافئة بين المقاومة الفلسطينية و"إسرائيل" لا يمكن قياسه بالطريقة نفسها التي يقاس بها الردع بين الدول، لأنه يصعب تطبيق مفهوم الردع التقليدي على الحال الفلسطينية، فالمقاتلون والمجاهدون الفلسطينيون لديهم تعبئة عقائدية ثورية، تجعلهم يُسقطون فكرة ميزان القوة والتكافؤ والثمن الباهظ والردع، لأنهم يقاتلون من أجل استرداد أرضهم المقدسة بما فيها قبلتهم الأولى المسجد الأقصى المبارك، هذه الأرض المقدسة لا تقدر بثمن، ومن هنا فإن فلسفة العصا والجزرة في معارك التحرير لا قيمة لها.
"إسرائيل" تنظر إلى المقاومة الفلسطينية الحالية، وبخاصة الإسلامية منها، في الضفة وغزة على أنها تهديد وجودي يجب القضاء عليه، واذا لم تستطع القضاء عليه فلا بد من احتوائه كما فعلت مع منظمة التحرير وخصوصاً فتح باتفاقيات تخدم الأمن الإسرائيلي في مقابل اعترافها بالمنظمة كممثل للشعب الفلسطيني من دون الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني بفلسطين أو حتى بجزء من فلسطين وهو حدود عام 1967.
بعد أوسلو وحدوث الانقسام الفلسطيني وسيطرة حماس على غزة، استخدم جيش الاحتلال الإسرائيلي كل الإمكانات والأسلحة في حروبه على غزة، ولم يتبقّ له إلا استخدام السلاح النووي، وهذا أفقد الاحتلال قدرته على الردع، وأصبح قادة جيش الاحتلال والمستوطنون في الكيان على يقين بعدم القدرة على تحقيق الهدف من الحروب المتواصلة على غزة، ويقين أكبر بعدم القدرة على القضاء على فصيل مقاوم واحد وهو الجهاد الإسلامي، ففي حرب "إسرائيل" الأخيرة أو ما سمّته معركة "الفجر الصادق"، وما سماه الجهاد الإسلامي معركة "وحدة الساحات"، إلا أن الحركة أثبتت قدرة عالية على إدارة المعركة واستطاعت على الرغم من خسارتها القادة الشهداء الصمود وتكبيد العدو خسارات فادحة على المستوى الاستراتيجي تمثل في تأكّل قدرته على الردع.
تعد حقبة الفاسد نتنياهو السابقة قبل 2022 حقبة الحروب بلا أهداف محددة، بل كانت كل الحروب المتكررة على غزة بهدف المحافظة على قوة الردع الإسرائيلية، وإضعاف قوة الجهاد الإسلامي وحماس وفي كل مرة كانت تتراجع قدرات الردع الإسرائيلية وتزداد قوة المقاومة العسكرية والسياسية.
إن الخاصرة الرخوة في هذا الكيان الهش هي المواطنون العرب في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1948، إذ يمثلون عامل ردع حقيقي لهذا الكيان، وتعد عملية الشهيد محمد أبو القيعان مؤشراً مهماً إلى قدرة الردع الفلسطينية عموماً، كذلك فإن التظاهرات التي خرجت في أثناء معركة "سيف القدس" في أيار/مايو عام الماضي دقّت ناقوس الخطر في داخل الكيان الصهيوني، وأثبتت أن الشعب الفلسطيني المقاوم غير مردوع وأن المستوطنين الصهاينة هم المردوعون والخائفون على كيانهم وإمكانية استمراره.
يمكن القول إن عودة المقاومة إلى الضفة الغربية، والانتخابات الإسرائيلية الأخيرة في تشرين الثاني/نوفمبر 2022 وفوز الفاسد نتنياهو والمتطرفين من الصهيونية الدينية أمثال سموتريتش وبن غفير يدلل على عدم عقلانية الفكر الصهيوني المتطرف، لأن محاولة التوسع وضم كل الضفة الغربية وتطبيق القوانين الإسرائيلية عليها، والعودة إلى فكرة "إسرائيل الكبرى" من دون مراعاة العبء الأمني، كل ذلك سيؤدي إلى تأكل ما تبقى من قوة ردع يمتلها الجيش الصهيوني.
المعركة الأخيرة مع الجهاد الإسلامي وحده أثبتت وباعتراف خبراء عسكريين وسياسيين صهاينة، أن ادعاء تحقيق الردع عبارة عن أكاذيب، ففي كل مرة يخوض فيها الجيش الصهيوني حرباً على الجهاد الإسلامي أو حماس يحتاج إلى خوض معركة أخرى لإعادة ترميم صورة الردع التي هي في الأساس غير موجودة بشقيها العسكري والسياسي، حتى أسلوب واستراتيجية الحصار لم يمنعا المقاومة من تطوير نفسها وخلق ظروف أمنية صعبة تشكل تهديداً لـ "إسرائيل".
في الختام يمكن القول إن قوة الردع الإسرائيلي محدودة زمانياً ومكانياً، وتأثيرها مفقود على الشعب الفلسطيني وقيادة المقاومة، وما يحدث في الضفة يؤكد أن قوة الردع الصهيونية في طريقها إلى الزوال، على الرغم من سقوط الشهداء والجرحى، كما حدث في غزة، وليس أمام قوات الاحتلال إلا الهرب من الضفة كما هربت من غزة.