كانت لافتةً خلال الأيام الماضية حملة التضامن والتعاطف الواسعة مع القضية الفلسطينية على هامش بطولة كأس العالم لكرة القدم التي تنظّمها دولة قطر، فالهتاف بالحرية لفلسطين ورفع الأعلام الفلسطينية بات مشهداً تكاد لا تخلو منه كل الملاعب والشوارع والتجمّعات الجماهيرية.
في المقلب الآخر، كان لافتاً أيضاً بدرجة مشابهة رفض المحتل الإسرائيلي، حتى وهو يختبئ خلف بطاقته الإعلامية والصحافية. الصحافيون الإسرائيليون "المستفزّون" قاطعتهم الجماهير على اختلاف انتماءاتها، ولا سيما العربية منها، وتعرَّضوا لسيل من الانتقادات والاتهامات التي وصفت "دولتهم" بأنها "دولة" قاتلة ومجرمة ومحتلّة، وأنها لن تحظى بأيِّ مكانة تُذكر في قلوبهم وعقولهم التي لم ولن تعترف إلا بفلسطين.
ربما كان هذا الأمر مفاجئاً للبعض ممن اعتقدوا أنَّ القضية الفلسطينية فقدت بريقها، وباتت من القضايا الهامشية لدى شريحة كبيرة من العرب والمسلمين، وأن القضايا الداخلية التي تواجهها تلك الدول باتت تستحوذ على جل اهتمام مواطنيها، وخصوصاً أنَّ قضايا مُلحّة، مثل الفقر والبطالة وضعف الناتج المحلي وزيادة الاعتماد على الواردات والتفكك الاجتماعي والانقسام السياسي، أصبحت الشغل الشاغل لكلِّ مواطني العالم العربي والإسلامي، وباتت في كثير من الأحيان تطغى على ما سواها من قضايا وملفات، وإن كانت بحجم القضية الفلسطينية، التي ما زالت تعدّ بالنسبة إلى الكثيرين بمنزلة القضية المركزية للأمة العربية والإسلامية.
ومع أهميّة ما جرى، لناحية أنَّ هذه "الدولة" المارقة المسمّاة "إسرائيل" لم تستطع فرض نفسها كياناً طبيعياً في المنطقة والإقليم يمكن التعايش معه، وإنشاء علاقات سياسية واقتصادية واجتماعية تكون أحد أطرافها، إلا أنَّ تلك الحملات التضامنية التي أشعرتنا بأنَّ الأمة ما زالت بخير، وأنّ اتفاقيات العار، من "كامب ديفيد" إلى "وادي عربة"، وصولاً إلى "اتفاقية أبراهام"، لم تفتّ عضد الأمة، ولم تنجح في كيِّ وعيها لدفعها إلى القبول بالمعتدي والتسليم بوجوده في القلب منها... لا يبدو أنَّها يمكن أن تنعكس على المستوى القريب تحديداً فعلاً مؤثراً وحاسماً في دعم القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني على أرض الواقع، سواء على المستوى المادي أو المعنوي، ولمَ لا على المستوى العسكري والتسليحي الذي هو بأمس الحاجة إليه؟!
صحيح أنَّ "إسرائيل" شعرت بخيبة أمل شديدة تجاه ما جرى، وأكاد أجزم أنها أرسلت هذا العدد الكبير من المراسلين "الوقحين" لجسّ نبض الشارع العربي في هذا التجمع العالمي الكبير، وصحيح أنَّ الأنظمة العربية التي طبّعت مع الكيان الصهيوني مقابل صفر فوائد تعود على شعوبها، ستشعر بالخزي والعار، إن كان قد تبقّى لديها شيء من الإحساس، ولكن كل هذا لا يكفي!
إنّ حسم القضايا الكبرى لا يحتاج إلى حملات التضامن والتعاطف فحسب، على الرغم من أهميتها، والانتصار على عدو مسلّح من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه لا يتأتّى بالحملات والوسوم، على الرغم من تأثيرها، بل نحتاج إلى عمل حقيقي ومُستدام من خلال منظومة متكاملة تشارك فيها كلّ قوى الأمة الحيّة والفاعلة، بعيداً من تلك الأنظمة التي لم تكن يوماً سوى سيف مُسلَط على رقاب شعوبها، ولم تقدم بمجملها مع بعض الاستثناءات المحدودة شيئاً ذا قيمة لفلسطين وشعبها.
وبالتالي، علينا أن نضع ما جرى في قطر في سياقه الطبيعي، ونحاول أن نقرأ المشهد بهدوء ومن دون انفعال، حتى نخرج بتصوّر يمكن أن يكون مفيداً في المرحلة القادمة من تاريخ الأمة، وحاسماً وفعّالاً على صعيد دعم القضية الفلسطينية بشكل عملي ومؤثر، لا سيما مع وجود مؤشرات قد تبدو مشجّعة، ويمكن البناء عليها على أكثر من صعيد.
المؤشّر الأول الذي يمكن أن نقف عنده هو أن الأمة العرببة والإسلامية بحاجة ماسّة إلى من يطرق جدران الخزّان بقوة ومن دون توقف، حتى يُخرِج تلك الطاقة الإيجابية المخزنة في داخلها ويوجهها إلى الطريق السليم. ولأنَّ هذه الطاقة الهائلة مسجونة خلف جدار سميك من التجهيل والإلهاء والتخويف، فهي بحاجة إلى مؤثر سمعي أو بصري يشحذ الهمم ويحفّز الطاقات ويُطلق العنان للمبادرات والإبداعات.
ويبدو أنَّ وجود المراسلين الصهاينة على الأرض القطرية أطلق جزءاً من تلك القوة الكامنة في عقول الجماهير العربية والإسلامية وبعض الجماهير الأوروبية واللاتينية الذين تذكّروا أنَّ هذا الكائن الذي جاء لمحاورتهم، والذي يتجول بكاميرته وميكروفونه بين صفوفهم، ما هو إلا ذلك الشخص الذي حرّض على قتل إخوانهم الفلسطينيين في جنين ونابلس والمسجد الأقصى، ونقل في بثٍّ حيٍّ ومباشر صور الصواريخ والقنابل وهي تسقط على رؤوس النساء والأطفال في غزة.
هذه النظرة جعلت كلّ من يعرف بأنّ من يقف أمامه إسرائيلي يلجأ على أقل تقدير إلى استخدام سلاح المقاطعة، وهو سلاح مهم وفعّال حاول العدو منذ سنوات أن يتجاوز آثاره ويقلّل من تبعاته من خلال اتفاقيات التطبيع.
وبالتالي، على جميع العاملين في حقل دعم القضية الفلسطينية أن يبذلوا كل جهد ممكن لتظهير كلّ ما من شأنه تنشيط ذاكرة المتضامنين والمتعاطفين والداعمين للمشروع الفلسطيني، واستخدام كل الوسائل الممكنة، وما أكثرها في عصرنا هذا! في إيصال كل صورة أو كلمة أو موقف إلى أكبر قدر ممكن من المتابعين، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى تزايد الحملات المساندة للشعب الفلسطيني، ولحقه في الحياة الكريمة على أرضه. وفي المقابل، تنامي مشاعر الرفض للمحتل الصهيوني ولما يقوم به من اعتداءات وتجاوزات وجرائم.
المؤشر الثاني الذي لا تخطئه عين هو أنَّ "رياح" الشعوب الكادحة والمقهورة في أوطاننا العربية والإسلامية تجري عكس ما تشتهي "سفن" الحكّام والزعماء والأمراء، وأن الحديد والنار اللذين استخدمهما عدد من الأنظمة لإجبار الشعوب على التسبيح بحمد سياساتهم، والتسليم بصواب خياراتهم فيما يخصّ العلاقة مع الكيان الصهيوني تحديداً، فشلت فشلاً ذريعاً، وذهبت كل المحاولات الممهورة بالرشوة والابتزاز حيناً، والدماء والأشلاء حيناً آخر، أدراج الرياح، وأن المحاولات الرامية إلى دمج هذا الكيان الغاصب في صفوف الأمة والرضا بوجوده بين ظهرانيها سقطت إلى غير رجعة ولم تحقق المراد منها.
وبالتالي، المطلوب منا ومن كل الغيورين على مستقبل القضية الفلسطينية فتح آفاق أوسع وأشمل للحوار والتواصل مع الشعوب والجماهير، بعيداً من الأنظمة والحكومات، ومدّ المزيد من جسور التعاون والتفاهم مع النخب والمثقفين ومؤسسات المجتمع المدني والتكتلات الشبابية والجمعيات، وكل ما من شأنه دعم فلسطين وشعبها وقضيتها، بصرف النظر عن لونه وعرقه ومذهبه، مع ضرورة الإشارة إلى أننا بحاجة إلى مزيد من الجهد فيما يتعلَّق ببناء جسور من الثقة مع الشعوب خارج عالمنا العربي والإسلامي، ولا سيما تلك التي نجدها في كثير من المناسبات تقف مع قضية شعبنا وتساندها وتدعمها وتتعاطف معها.
أما المؤشر الثالث، فهو رسالة عفويّة وغير مخطّط لها لطرفي "الانقسام" في فلسطين، إذ لم نسمع متضامناً واحداً، عربياً كان أو أجنبياً، يقول: الحرية لغزة، أو الحرية للضفة، أو حتى الحرية للقدس والمسجد الأقصى! بل نطقوا جميعاً بعبارة واحدة: الحرية لفلسطين، والنصر لفلسطين، وفلسطين عربية.
هذا الأمر يشير إلى أهمية أن يقدّم الفلسطينيون، على اختلاف انتماءاتهم الحزبية وتوجهاتهم السياسية، مصلحة شعبهم ووطنهم على كل المصالح الأخرى التي تخدم أهداف فصائلهم وجماعاتهم، وأن يرفع الجميع شعارَي "فلسطين واحدة" و"شعبها واحد"، وأن يبتعدوا عن اختزال هذا الوطن العزيز في منطقة جغرافية هنا أو هناك، خدمة لمصالح حزبية ضيقة قد تؤدي في مرحلة ما، إذا تمَّ التسليم بها، إلى تشظّي جغرافيا هذه الأرض إلى دويلات متفرقة ترضى بما قسمه لها الاحتلال، وتذهب بالقضية الفلسطينية وشعبها الصابر إلى المجهول.
ختاماً، نعود إلى التأكيد من جديد أن التضامن وحده لا يكفي، وأن هذه التظاهرة الرياضية ستنتهي بعد أيام، إذ ستنفضُّ الجموع، وتحزم الجماهير أمتعتها، وتعود إلى بلدانها وأشغالها وهمومها. لذلك، المطلوب منا ومن كل الغيورين على قضية فلسطين المحقّة والعادلة المراكمة على ما حدث والبناء عليه، بما يدفع باتجاه تطويره ليصبح موقفاً مُستداماً، يمكن أن يؤدي إلى نتائج تترجم على أرض الواقع بشكل عملي وفعّال.