كان ياسر محرومًا من حق زيارة عائلته له طيلة فترة أسره، بسبب وجودهم في سوريا، الأمر الذي دفع "أم جبر" المقيمة في غزة، إلى أن تتبناه وتؤدي دور الأم له. وهذا يتجلى بنضال سيدات فلسطين اللواتي لا يبخلن بالعطاء لفلسطين بمختلف الطرق والأشكال، واللواتي أثبتن أنهن على استعداد تام لمقاومة الاحتلال والتصدي له، بكل الوسائل المتاحة وغير المتاحة، لتنطبق عليهن مقولة "اخوات رجال". لكن على الرغم من طيبة "أم جبر"، وحنانها على ياسر، يبقى شعور فقد الأهل والاشتياق إليهم ملازمًا له في كل وقت وحين. ولأن "الحاجة أمّ الاختراع"، استطاع ياسر مرة جديدة أن يتفوق بذكائه على السجان، للتواصل الهاتفي مع عائلته.
فشل كلوي
أصيب ياسر بفشل كلوي عام 1997، بعد قضائه ثماني سنوات في الأسر، سببه إهمال طبي من عيادة السجن. كان ياسر يشكو من آلام شديدة في المسالك البولية، في ظل إهمال متعمد من الاحتلال بإعطائه العلاج المناسب، حتى أدى به الأمر إلى التهاب حاد في الكلى. بعد تفاقم وضع ياسر، وبعدما قام الأسرى بوقفة احتجاجية دعمًا له، تم نقله إلى المستشفى. حيث تم إخباره بأنه يجب أن يخضع لغسيل كلى ثلاث مرات في الأسبوع، بسبب الفشل الكلوي، ليصبح بإقرار الطبيب المختص من مرضى غسيل الكلى.
إيجاد متبرع
طالب ياسر محكمة الاحتلال بالإفراج عنه، مرارًا وتكرارًا، بسبب وضعه الصحي، لكن دائمًا ما كان الرفض سبّاقًا لطلبه، بحجة أنه يشكل خطرًا على أمن الاحتلال. ما دفعه في إحدى جلسات المحكمة إلى طلب إذن التكلم مع القاضي (فهو يتقن اللغة العبرية)، قائلاً له: "أنتم تشكون دائمًا من كلفة غسيل الكلى، وأنه إذا وُجد متبرع ستحل المشكلة"، ليشغل دهاءه هنا، ويخبر القاضي أنه لديه متبرع من سوريا، وأنه سيتابع الأمر مع "الصليب الأحمر" لإحضار أحد إخوته إلى فلسطين المحتلة، من أجل إجراء عملية الزرع.
بما أن ياسر مسلوب حق التواصل مع أهله حتى هاتفيًّا، فقد استخدم عقله الفلسطيني المقاوم، ليحقق انتصارًا على الاحتلال بخطته الذكية، حيث أخبر القاضي أن المشكلة الوحيدة التي تواجهه هي حاجته إلى الاتصال بعائلته، لإقناعهم بإرسال أحد إخوته لإجراء العملية.
فكانت موافقة القاضي على السماح لياسر بالاتصال هاتفيًّا بعائلته سابقة تاريخية كبيرة، ولا سيما لأسير أمني، لأن الاحتلال لا يتراجع عادة عن قوانينه القمعية، ولكن أثبت ياسر مجددًا أن التغلب على الاحتلال يحتاج إلى استخدام الدهاء الفلسطيني في مختلف أساليب المقاومة.
سابقة تاريخية
وضع الاحتلال شرطًا على ياسر، أن لا يخبر أحدًا عن موضوع الاتصال الهاتفي المجاني، ليجيبه الأخير بأن "سره في بير"، من دون أن يعلم أن البئر تحتوي في جوفها على جميع الأسرى. كما أنه تم الاشتراط عليه، أن يجري اتصاله بسرعة. ولكن عندما ردّ أهله على الاتصال، بدأ ياسر حديثه المطول: "أهلاً بأبو سمرة، كيفك؟ شو الأخبار؟ اعطيني امي؟ شو عاملين؟..."، لتمر خمسة وأربعون دقيقة، وياسر لم يفتح موضوع مرضه وحاجته إلى التبرع بكلية مع أهله. هنا سأله الضابط الأمني عن سبب عدم إخبار أهله بالموضوع الأساسي، ليجيبه ياسر بأنه لا يمكنه إخبارهم من المكالمة الأولى أنه يريد كلية، ولا سيما أنه لم يكلمهم منذ تسع سنوات، وأنه يحتاج إلى المزيد من الاتصالات، ليمهد لهم الأمر.
وبعدها قام ياسر بإيصال رسالة إلى أصدقائه في الزنازين الأخرى، حول قرار القاضي بالسماح له بإجراء مكالمة هاتفية مع أهله، ليقوموا بمطالبة الاحتلال بالاتصال بذويهم. فما كان من مدير السجن إلا الذهاب إلى ياسر، ليسأله ماذا فعل، وما سبب إفشائه السرّ وعدم التزامه بوعده... فأجابه ياسر: لطالما نقضتم عهودكم، ولم تفوا بوعودكم لنا، والآن جاء دورنا. ليقوم مدير السجن بالوعيد والتهديد والتهويل...
وعقوبة له، فقد تم السماح لاحقًا لجميع الأسرى بالاتصال بذويهم ما عدا ياسر، ما جعله يعلن الإضراب عن غسيل الكلى، إلى حين السماح له بإجراء مكالمة مع أهله. ومرة أخرى يجبر الاحتلال على الرضوخ لمطلبه، فتتم الموافقة له على الاتصال بأهله، خوفًا من أن يفقد حياته، الأمر الذي سيوقع سجانيه بمشكلة كبرى.
كيف لأسير، لا حول له ولا قوة، أن يكون سببًا في تغيير مصير جميع الأسرى من بعده؟! إنه ليس بالأمر العادي أن يقلب أسير الموازين كلها، ويأخذ مراده من المحتل بهذه البساطة... فياسر مثال الفلسطيني المقاوم الذي يأبى الخضوع والاستسلام، ويقاوم في أصعب الظروف، ليعيش حرًّا أبيًّا، مطبقًا مضمون ما ورد في نشيد "موطني": "لا نريد ذلنا المؤبدا وعيشنا المنكدا، لا نريد، بل نعيد مجدنا التليد".